الثلاثاء، 8 أبريل 2014

رواـة .. حكايــة حبيبــة .. الفصل الثالث

رواية حكايـــة حبيبـــة

الفصل الثالث


تعثُر ما يلوح فى الأفق .. ما يموج حولها ينطق بهذا .. بدى الوجوم على والدتها وهجرت عاداتها اليومية وبدت أكثر شرودا ً وأقل مرحا ً لم تعد تذهب إلى النادى الرياضى لتمارس رياضة المشى كل صباح لم تعد تحدث صديقاتها فى الهاتف كثيرا ً لم تعد تقيم الحفلات بمنزلهم أسبوعيا ً ..
أما والدها فلم يعد يتكلم بات يصرخ ويهدر كلما دخل غرفة مكتبة الخاصة أما أختها " نشوى" فمنذ أن وضعت طفلها الأول وهى غائبة عن المشهد برُمته وزوجها "راغب" باتت  تراه كثيرا ً فى الآونة الأخيرة ..  
حتى جاء اليوم وإستطاعت فهم ما يحدث حولها .. كانت قد إنتهت من إرتداء ملابسها ووقفت أمام مرآتها وهى تضع اللمسات الأخيرة  قبل أن تغادر وفى نفس الوقت تتحدث إلى إحدى صديقاتها فى هاتفها النقال .. لمحت فى المرآة باب غرفتها يُفتح وهى تضع عطرها المفضل فى عجلة من أمرها .. إبتسمت بمرح وهى ترى " نشوى" تخطو داخل غرفتها حاملة طفلها الصغير والذى لم يبلغ شهره الثانى بعد بين يديها فتوجهت إليها على الفور وأخذت الطفل بنعومة فوق ذراعيها وهى تداعبة بسبابتها بخفة تلامس شفته السفلى الصغيرة وتصدر أصواتا ً مضحكة تلاطفه بها منسجمة تماما ً معه إلا أنها تذكرت موعدها مع صديقتها والتى نسيته تماما ً منذ لحظات عندما رأت تلك العينين البريئتين التى تفتح بالكاد فأعادته إلى أختها وهى تتكلم بسرعة قائلة:
- معلش يا " نشوى" مضطرة أسيب القمر ده وأنزل دلوقتى .. إتأخرت أوى على معادى
وقبل أن تتحرك من مكانها أوقفتها " نشوى" بكلمات حادة أجبرتها على التصلب مكانها على الفور وكأنها تحجرت فجأة :
- يابرودك يا شيخه ولا على بالك كل اللى إحنا فيه
إلتفتت"حبيبة " إليها برأسها متعجبة وهى تقول:
- فى إيه يا " نشوى" بتكلمينى كده ليه ؟ 
إستدارت " نشوى" بجسدها كله وإتخذت موضعا ً متحفزا ً وهى تقول بشراسة :
- طبعا ً ما إنتى نايمة فى العسل وماتعرفيش إن بابا خسر فلوس كتير جدا فى آخر صفقة دخلها وبقينا كلنا مهددين بالإفلاس
حاولت "حبيبة" أن تستوعب تلك الكلمات التى أُلقت فى وجهها دفعة واحدة وهى تُكرر آخر كلمة طرقت سمعها بشدة:
- إفلاس ؟!!
طرقت الخادمة الباب فى تلك اللحظة وهى تدلف بجزء من جسدها إلى الداخل قائلة بأدب:
- مدام " نشوى" .. "فريدة" هانم عاوزه حضرتك بره
إحتقن وجه "نشوى" بشدة وأخذت تصيح ناهرة إياها بقوة :
- قولتلك مليون مره إسمى " نشوى" هانم .. فاهمة ولا لاء
أطرقت الخادمة برأسها فى ذعر وقد تشابكت حروف إعتذراها وإختلطت بإرتباك وخوف حتى شعرت براحة يد "حبيبة " الدافئة توضع على كتفها قائلة:
- معلش يا " أمل" روحى إنتى دلوقتى لو سمحتى
لملمت " أمل" شتات نفسها وهى تتراجع للخلف وتخرج متجهة إلى الخارج بينما إنسحبت "حبيبة" خلفها من الغرفة فى صمت متوجهة إلى والدتها مباشرة بخطوات سريعة و" نشوى" تلاحقها بخطوات أسرع منها وعينان يتطاير منهما الشرر والطفل يهتز بين يديها بشدة من فرط تحركاتها العصبية المنفعلة وبمجرد أن إقتربت "حبيبة" من والدتها إنخفضت قليلا ً لتضع قبلة صغيرة على وجنتها كما تفعل يوميا ً قبل خروجها من المنزل ولكن كلمات " نشوى" توقفها للمرة الثانية ولكن هذه المرة لم تكن كلمات حادة فقط بل كانت ذابحة :
- طب متنسيش بقى يا أم قلب حنين تكلمى حبيب القلب وتباركيله على الجواز
ظلت منحنية لثوانى وكأن الزمن قد توقف بها فى تلك اللحظة لم تفق منها إلا عندما وقفت والدتها تنظر إلى " نشوى" بتساؤل وهى تقول:
- جواز مين يا " نشوى"
خطت " نشوى"بهدوء تجاه أحد المقاعد الوثيرة التى تتوسط حجرة المعيشة وجلست مستقيمة الظهر ثم قالت وهى تلتفت إليهما برأسها ببطء وتزم شفتيها بلامبالاة :
- " شادى" وبثينة " هانم .. كل المجلات الفنيه ناشرة خبر جوازهم بالصور لو حابين تتأكدوا
تجمدت ملامح "حبيبة" لحظات إلى أن زحفت إبتسامة صغيرة إلى أحدى جوانب ثغرها وهى تقول بعدم تصديق:
- مستحيل طبعا ً
عادت والدتها إلى جلستها مرة أخرى وهى تنفخ بقوة معقبة :
- أحسن بلا قرف
أنهت عبارتها وهى تلتفت إلى "حبيبة" التى ترتكتهم وغادرت على الفور بصمت .. عادت مرة أخرى إلى " نشوى" بعينين قلقتين فقالت "نشوى" على الفور:
- بنتك دى أصلها مدلعه سيبك منها وخالينا فى اللى إحنا فيه هانخرج من كارثة الديون دى إزاى ؟
***
أخذتها قدميها إلى منزله حيث يعيش مع عمته المسنة فى ذلك المنزل القديم وتصارع بداخلها مشاعر عدم التصديق لما سمعت من أختها وتقاوم الأدلة التى تؤكد صدق كلماتها وما لاحظته من تغيير كبير فى تصرفاته فى الآونة الأخيرة ..
وبعد دقائق من عمر الزمن وجدت نفسها تجلس فى شرفة ردهة فسيحة  تطل على إحدى الشوارع الجانبية بصحبة عمته يفصل بينهما طاولة صغيرة موضوع عليها أدوات القهوة وفنجانين قد إمتلآ إلى المنتصف تقريبا وتقص عليها ما سمعته متسائلة عن مدى صدقه ولكنها لم تجد سوى نظرات حائرة بداخل عينين غائرتين تحيطهما أهداب متجعدة بفعل الزمن وكلمات منفعلة مزجت بين الدهشة والضيق قالتها عمته وهى تهندم وشاحها الأسود فوق كتفيها :
- لا يابنتى إوعى تصدقى الكلام ده ... ده بيكلمنى كل كام يوم يطمن عليا لو كان إتجوز كان قالى
أنهت المرأة حديثها فلم ترى أى أثر للإقتناع على وجه " حبيبة " مازال جبينها مقطب والحزن يلمع يعينها شاردة الذهن فإستطردت  قائلة:
- إنتى لسة مصدقة الكلام الفارغ ده ؟
أشاحت "حبيبة" بوجهها وهى تجيب بخفوت:
- لو الكلام ده غلط ليه مش بيرد على تليفوناتى المدة دى كلها ..
حاولت عمته أن تقتطع الشك باليقين فتناولت هاتفتها النقال ومدت ذراعها به لها وهى تقول بثقة:
- طب أنا هاكلمه قدامك وأخاليه يقولك إن الكلام ده كله كدب يابنتى .. بس طلعيلى إنتى اسمه من هنا علشان التليفون ده خطه صغير أوى وأنا نظرى بقى على قدى اليومين دول
أخذت "حبيبة" الهاتف بتردد وضغطت أزراره تبحث عن اسمه حتى وجدته ..ألقت نظرة سريعة على الرقم أسفل الإسم ورفعت حاجبيها بصدمة بالغة وهى تُتمتم :
- يااه وكمان غير رقمه
لم تسمع عمته تلك الهمهمات فلقد كانت منشغله بإنتظار إجابة الرنين بحماس كبير وأخيرا ً أتاها صوتا ً أنثويا ً يجيب بشكل روتينى فقالت المرأة على الفور :
- إدينى يا بنتى " شادى" ابن أخويا قوليلوا عمتك
أجابت السكرتيرة ببرود:
- آسفه يا فندم عنده تسجيل حضرتك ممكن تكلميه بعد الساعه عشرة يكون خلص
إنفعلت المرأة أكثر وقالت بعصبية :
- تسجيل إيه وبتاع إيه باقولك قوليلوا عمتك عاوزاك ..
وقبل أن تنهى عبارها وجدت "حبيبة" تسحب منها الهاتف وتضعه على أذنها وتقول :
- طب من فضلك إدينى عنوان الإستديو علشان عاوزينه فى أمر ضرورى
كتبت العنوان وأغلقت الهاتف ووضعته على الطاولة أمام المرأة التى رأتها تتناول حقيبتها بحركة سريعة وتتحرك للخارج بصمت كل حركة كانت تقوم بها أنبأتها أنها عازمة على السفر الآن فقالت بإلحاح:
- رايحة فين يا "حبيبة" هتسافرى القاهرة لوحدك يا بنتى ده المغرب قرب
ولكنها لم تستمع إلى حرف مما قيل كانت هى الأخرى تسعى إلى قطع الشك باليقين ولم يكن يكفيها محادثةً عبر الهاتف كانت تريد المواجهة لتتأكد بنفسها فربما يكذب عليها عبر الهاتف ولكنه لن يستطيع الكذب وهى تنظر إليه مباشرة ..
دون تفكير خطت داخل محطة القطار وحجزت مقعدا ً فى أول قطار متوجه إلى القاهرة وجلست تنتظر .. لم تشعر بالوقت ولم تفكر فى شىء سوى مواجهته لتسأله سؤالا ً واحدا ً وهى تنظر إليه .. لماذا ؟
ها هو القطار يمضى بها إلى مدينة غريبة عليها لم تسعى إليها وحدها مطلقا ً...
وهاهى الآن تجلس وحدها بداخل قطار يسرع بها .. يسافر بها وحدها ... نعم كان هناك رُكاب كثُر ولكنها لم ترى سوى الأعمدة المتلاحقة والتى بدت تسابق القطار وتحاول تخطيه ولكنها تفشل ..  تنظر من النافذة الذى تغبر زجاجها بأنفاسها الحارة إلى جانب الطريق الذى يلتهمه القطار إلتهاما ً سريعا ً وهى تستند برأسها إليه وما أن أسدل الليل أستاره وبدأت مصابيح أعمدة الطريق تنير بقوة حتى بدأ شريط الذكريات يتلاحق هو الآخر كتلاحق تلك الأعمدة ..
تذكرت حفلة الجامعة التى رأته فيها وأُعجبت بصوته الدافىء وإتقانه أداء الأغنيات القديمة التى تعشقها وفى يوم وليلة بدأ يتقرب منها ويتعرف إليها أكثر وأكثر ويندمج بين أى مجموعة تجلس إليهم ويوجه أحاديثه وكلمات أغنياته وإهتمامه إليها هى وحدها بشكل خاص حتى لفت إأنتباه الجميع إلى إهتمامه بها وبدأت الفتيات تتحدث بهمس .. إنه مُعجب ولهان ..
تذكرت إضطرابها وإنصرافها من أمامه على الفور عندما صارحها بمشاعره وظلت لأيام بعدها تسأل نفسها نفس السؤال هل أنا أيضا معجبة به أم أنا فقط معجبة بصوته وطريقة أداءه لألحانى المفضلة ..
طاردتها همسات الفتيات من حولها .. تلك الهمسات التى جعلتها تشعر أنها مُميزة .. لأنه إختارها هى من بين الجميع .. لقد كانت تحتاج إلى هذا الشعور كثيرا ً .. الشعور بالإهتمام والتميز فلقد كانت تفتقده بقوة بداخل عائلتها الصغيرة ..
وهنا تركت لمشاعرها العنان معه واستسلمت لرياح الحب القادمة من شماله إلى جنوبها المتجمد دائما ببرودة المصلحة والحسابات الخاصة والصفقات الرابحة والحفلات الصاخبة  .
بدا رصيف وصول القطار إلى محطته المنشودة فى الظهور وعاد كل شىء يسير ببطء وعلى مهل .. زحف القطار بهدوء حتى توقف تماما ً واستعد الجميع للمغادرة كل إلى طريقه وإنسلخت هى من بين الجميع تشق طريقها وهى تحمل الورقة التى دونت بها العنوان وتنظر يمنة ويسرة تبحث عن وسيلة مواصلات تُقلها إليه حتى وجدت سيارة أجرة سيارة أجرة كانت تنتظر على الرصيف الخارجى للمحطة .. أومأ السائق برأسه يؤكد لها أنه يعرف الطريق جيدا ً ورغم أنه على مسافة ليست بالقصيرة إلا أنه سيقلها إليه أسرع من الريح ..
وبدأت رحلة أخرى داخل المدينة المزدحمة والسيارات المتشابكة حتى هدأ كل شىء رويدا ً رويدا ً وإنطلقت سيارة الأجرة أسرع مما كانت عليه بكثير وبدأت بعض كثبان الرمال المنخفضة على جانبى الطريق فى الظهور ..
لم تكن تعى ما يحدث حولها ولا أين هى ذاهبة كانت شاردة تماما ً وكأنها غائبة عن الوعى  حتى توقف السائق بجوار مبنى كبير أُنشأ حديثا ً تحيط الأضواء بالطابق الأسفل منه وتقف أمامه بعض السيارات العصرية ذات الطراز الحديث .. إلتفتت مضطربة إلى السائق الذى أنبأها بالوصول ليخرجها من ذكرياتها المتلاحقة التى سلبتها وعيها وأنستها كيف ستعود من حيث أتت ..
ترجلت من السيارة تتلفت باحثة عنه أو عن أى شىء يدل على وجوده هنا وقد كانت اللحظة الحاسمة التى أتت من أجلها ..
رأته وهو يخرج من الإستوديو مُحيطا ً كتفى " بثينة " بذراعه  .. 
معقول هل هذا هو " شادى" لقد تغيرت هيئته كثيرا ً حتى كادت أن تتغير ملامح وجهه إلا إنه ظل محتفظا ً بتلك الإبتسامة الكبيرة التى تغزو وجهه بالكامل كلما يخطو خطوة جادة فى طريق حلم عمره ..
يكاد يطير فوق الأرض طيرا ً من فرط سعادته وقد إنتهى منذ قليل من تسجيل آخر أغنية فى أول شريط غنائى بإسمه سوف يُطرح فى الأسواق بعد أيام قليلة ليستعد بعدها لتصوير أول " فيديوكليب" فى حياته الفنية ..
وبرغم من أنها لم تصدر جلبة لتلفت إنتباهه إلا أنه إستطاع أن يميزها من بعيد .. لم يكن من الصعب أن يلفت إنتباهه الأُنثى الوحيدة التى تقف بعيدا ً عن دائرة ضوءه والمجال اللامع المحيط به .. إرتبك كثيرا ً وقد إلتقت عيناهما ولم يعرف ماذا يفعل حتى شعر بقبضة " بثينة " تحيط بمرفقه وهى تقول بغضب:
- أيه اللى جابها هنا دى
يبدو أنه لم يكن الوحيد الذى لفت وجود  "حبيبة" إنتباهه فعينيى " بثينة " رصدتها فى الحال وحددت موقعها البعيد لدرجة القُرب الشديد ! ..
تلعثمت الكلمات على شفتيه وتعثرت حروفه وقبل أن يعثر على الكلمة المناسبة شدت  قبضتها على مرفقه مرة أخرى وهى تستطرد بإنفعال:
- إتفضل روح إنهى الحكاية دى بقى ومش عاوزة أشوف وشها تانى
تقدم منها خطوات رتيبة محاولا ً إضفاء بعض الهيبة على قدومه حتى يقطع عليها طريق الشجار أو التوبيخ وما أن وقف أمامها حتى إنصهرت هالة البرود التى أحاط نفسه بها ودمعت عيناه وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين وأطرق برأسه فى خجل ولم يسعه إلا الجلوس بمقعد الإعتراف والبكاء وهو يتحدث عن خطاياه فى دقائق معدودة لم يكن يمتلك غيرها فى تلك اللحظة الحاسمة :
- أنا آسف .. سامحينى .. أنا كنت أنانى وإخترت نفسى وفضلت حلمى عليكى .. عارف إنك صعب تسامحينى بس على الأقل حاولى تلتمسى ليا ولو عذر واحد ..
لم تستطع أن تنتظر أكثر من هذا وهى تراه يعزف لحن الندم على أوتار كلماته البائسة .. قاطعته بحسم متسائلة:
- ليه ؟
سقطت عبرة سريعة مسحها سريعا ً وهو يلتفت خلفه خوفا ً وإرتباكا ً ينظر إلى "بثينة" ثم يعود إليها بجسده كله قائلا ً فى عجلة :
- كان نفسى أحقق حلمى وماكنش قدامى طريق تانى و..
قاطعته مرة أخرى ولكن بحزم هذه المرة قائلة:
-  ليه مصارحتنيش ليه ماتكلمتش بصراحة وقولت إنك مش قادر تكمل معايا .. مش يمكن كنت وفرت على نفسك وعليا كل ده
رفع عينيه إليها مصدوما ً من ثباتها وقوتها فى الحديث فبرغم عبراتها النازفة إلا أن عباراتها صلدة قوية .. كيف تقف هكذا تلومه على عدم صراحته معها ولا تلومه على تركه لها .. هل نزل من نظرها حتى خرج من قلبها بهذه السرعة أم لم يكن بقلبها من الأساس وكانت تتوهم حبه ؟! ..
خُيل إليه  أنها إختفت وتبخرت من أمامه بعد أن ألقت فوق رأسه كلمتها الأخيرة منذ ثوانى :
- ربنا يوفقك
تيقن أنها إنصرفت وإختفت عن ناظريه عندما سمع صوت "بثينة" يلفحه من الخلف بسخرية:
- خلاص يا فنان ودعت حبيبة القلب ؟
إبتلع ريقة بقوة وهو يتمتم محاولا ً إخفاء دموعه :
- أنــا كنت بقولــ ...
جذبته بإتجاه سيارتها مقاطعةً إياه وهى تعانق أصابعه بين أصابعها برقة :
- مش مهم يا حبيبى كنت بتقولها إيه المهم إن حكايتك معاها خلصت خلاص
حاول أن ينظر خلفه مرة أخرى ولكنه لم يجرؤ على فعل هذا إلا عندما فتح لها باب السيارة الخلفى ورآها تجلس بأريحية تامة وهامة مرفوعة وإبتسامة منحوتة ثم أغلق الباب بهدوء وإستغل فرصة دورانه خلف السيارة وألقى نظرة خاطفة لم تجعله يتمكن من تتبع أى أثر لها وكأن الهواء قد حملها لينقلها إلى الإسكندرية مرة أخرى بعد أن عرفت الحقيقة بنفسها ..
فتح الباب الآخر وإستقل السيارة بجوارها بإبتسامة باهتة تخفى خلفها الكثير والكثير .. لم يستطع أن يمنع عقله من التفكير بها ولا قلبه من الدعاء لها فهى لم تكن مصدر لشقاءه فى يوم من الأيام على العكس تماما ًُهو من دخل حياتها فجأة وهو من إنسلخ منها بلا وداع ...
***
ها قد عاد وعيها إليها ولكن بعد فوات الآوان فهى تقف على طريق يبدو أنه شبه خاوى قلما ترى مصابيح قوية لسيارة تمر سريعا ً هنا أو هناك والظلام يلف جزء كبير من المكان الذى يبدو أنه كان صحراء وتم إعمارها وتنميتها ولكن ليس بشكل كامل وأخذ عقلها يدور وهى تجاهد منع دموعها من الهطول وتمسحها بعنف وقوة وهى تفكر كيف ستعود أدراجها فى تلك الساعة من الليل وبأى وسيلة فى هذا المكان الذى إنقطعت منه الوسائل ..
ها قد تعدت الساعة الحادية عشر ليلا ً وإقتربت من منتصفه بقليل ولكن حتى الآن لم يُعلن هاتفها عن أى إتصال قلق من أهلها ولا حتى رسالة تدعوها للإتصال بهم وكأنهم حتى لا يشعرون بغيابها ولا أين هى الآن وماذا تفعل ومع من ؟! ..
إبتسمت إبتسامة حزينة وهى تنظر إلى نفسها ساخرة من تساؤلاتها .. منذ متى وهم يقلقون بشأنى .. منذ متى وهم يتساءلون أين أنا اللآن .. منذ متى وأحدا ً منهم يشعر بغيابى أو حضورى ..
وها هو الشخص الوحيد الذى كان يهتم بى قد رحل هو الآخر غير مبالى بما خلفه وراءه من آثار .. كان الألم شديدا ً ولكن صعوبة موقفها فى تلك اللحظة كان أشد .. وأحتل التفكير فى كيفية عودتها عقلها بالكامل ولم تترك رهبة المكان بقلبها وصفير الرياح حولها  مكان للحزن يسعه بجواره .. خطت خطوات بطيئة وهى تلوح لإحدى السيارات القادمة ربما رآها أحدهم ورأف بحالها وأقلها إلى طريق تستطيع أن تتخذه مسلكا ً إلى محطة القطار ..
صفير الرياح يلفها بشدة ويثير خصلات شعرها ليبعثرها بقوة فوق جبينها وعلى كتفيها و برودة شديدة تدك أوصالها وأصوات نباح قادمة من بعيد تجبرها على إحتضان ذراعيها بترقب وخوف وهى تتلفت بنظرات خائفة يمنة ويسرة باحثة عن أى ملجأ لها .. وأخيرا ً بدت بارقة أمل فى الظهور عندما رأت إحدى السيارات تزحف وهى تقترب منها ببطء شديد ..
إبتلعت ريقها وهى تستعد لإستمالة عطف سائقها بشتى الطرق ليأخذها من هذا المكان الموحش وما أن توقفت السيارة أمامها حتى إنحنت بسرعة لتحدث سائقها ولكنها تفاجأت بآخر يجلس بجواره فلم تُلقى بالاً له ولا لنظراته المتفحصة لها عن قُرب وهى تقول بإضطراب :
- لو سمحت ممكن توصلنى لأى مكان فيه مواصلات أنا أصلى مش من هنا .. ممكن ؟
تبادل صاحب السياره نظرات ما مع الجالس بجواره الذى قال على الفور بحماس وهو يفتح الباب ويخرج منه ثم يفتح الباب الخلفى للسيارة ويشير إليها قائلا بترحاب:
- آه طبعا يا حلوه إتفضلى إحنا تحت أمرك
إبتسمت شاكرة وهى تجلس فى المقعد الخلفى ولكنها فوجئت به يدور حول السيارة وبدل من أن يجلس بجوار السائق جلس بجوارها فى الخلف .. إحتضنت حقيبتها إلى صدرها وهى تضع يدها على مقبض الباب وتستعد لفتحه قائلة بخوف :
- فى إيه ؟
قبض على يدها وسحبها إليه وهو يكممها باليد الأخرى ويشل حركتها تماما فلم تستطع الصراخ أو المقاومة وهو يقول بعبث :
- إهدى كده يا حلوة خالينا نقضى وقت حلو مع بعض
تشنجت عضلاتها وشعرت أن قلبها سيتوقف فى تلك اللحظة وهى ترى السائق ينحرف عن الطريق ويدخل بهم فى الصحراء ويسلك طريقا ً مهجورا ً مثيرا ً خلف إطارات سيارته بعض الرمال التى كانت تقف عليها ببراءة منذ لحظات ولا تعلم ما هو مُخبأ لها بعد لحظات ! .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق