السبت، 22 مارس 2014

روايــة.. حكـــاية حبيبــة .. الفصل الأول

روايــــة حكـــاية حبيبـــة

الفصل الأول





إنطلقت بعنفوان وتحدى بمقدمتها الضخمة المبتلة تشقه شقاً وتطفو فوقه بخفة ورشاقة لا تتناسب مع ضخامتها .. فهى المخضمرة فى مجالها بهيبتها وقدرتها وسرعتها الفائقة .. حاول أن يتحداها كما يفعل دائما ً ولكن كالعادة لم يستطع ثنيها أمام عزيمتها وتصميمها فى المضى قدما ً فى طريقها المنشود وإضطر فى النهاية رغم برودته وعتمته وأمواجه المتلاطمة إلى الإستسلام وإفساح الطريق أمامها .. فازت عليه كما تفعل دائماً وإنطلقت سابحة فى قوة ورزانة وهدوء يتناسب مع أسمها الذى أُطلق عليها " السهم " ..
رغم سرعتها وقوتها إلا أنها رفقت كثيرا ً بمن تحملهم فوق ظهرها .. طفت بهدوء ونعومة وقد أومأت للحظة بإشارة منها إلى البحر الذى تقبل فوزها بروح رياضية ثم رفعت مقدمتها قليلا ً بنشوة وإنتصار رغم حزنها وعدم رضاها عما يحدث على متنها الآن ..
رقص وصخب وصوت آلة الجيتار تدوى بألحانه العاشقة وهو يعزف بأصابعه المتدربة مغمضا ً العينين فى نشوة وتذوقا ً لكلماته التى كتبها وغناها لها وحدها فى يوم ميلادها والذى كان يتوافق فى تاريخه مع آخر ليلة من ليالِ شهر رمضان .. كانت تتمايل برأسها يمنة ويسرة برقة ممزوجة بالخجل وتُخلل أصابعها محاولة ترتيب خصلات شعرها الفاحم الطويل والذى عبث  النسيم بغرته القصيرة مداعبا ً عينيها السوداوتين  وهى تجلس بجواره بثوبها القرمزى الطويل مكشوف الذراعين  وقد تحلق حولهما الفتيات والشباب يصفقون ويتمايلون على وقع أنغامه التى إمتزجت بهدير أمواج النيل الهادئة والتى إنعكست على صفحته مصابيح السفينة القوية كاشفة أمامها تلك المراكب الشراعية الصغيرة التى تسبح بهدوء فى الجوار وقد وقف من فيها فضولاً يراقبون هذا الحفل الصاخب الملون بأزياء مبهرجة تلمع خطوطها وتُحمل بين أطراف الأصابع ذيولها وبالقرب من أسوار السفينة يصطف رجال الأعمال المدعويين بشكل عشوائى بملابسهم الرسمية الملائمة لتلك المناسبات الليلية وهم يتحدثون حول صفقاتهم وأعمالهم وكل منهم يحمل كأسا ً فارغا ً أو ممتلىء بعضه وينظر إلى شريكته الضاحكة بجواره مبتسما ً بين حين وآخر مجاملا ً وقد تسلل إلى سمع الجميع صوت "شادى" وهو ينهي أغنيته الحالمة بأبياتها الأخيرة ناظرا ً إلى محبوبته وخطيبته "حبيبة" مُرسلا ً كلماته إلي عينيها مباشرة :
تقدر تقول بعشقك وأنا عشقى مش ممنوع
خلاص فى لحظة لقى قلت الوداع يا دموع
يا نجمة عنى بعيد خايف لـمنى تضيع
أنا اللى قلبى شارى إوعى يا روحى تبيع
بحلم تكون ليّا  يا كل شىء فيّا
مهرك يا عمري غالى  وأحلامى وردية
***
أنهى أغنيته مبتسما ً لها بينما صفق من حولهما بحرارة وإعجاب وقد تداخلت الأصوات يبدى بعضها إعجابا ً والأكثر تسائلا ً عن كلمات الأغنية هل هو من كتب كلماتها أم لحنها فقط وغناها بصوته .. حاول أن يسيطر على إبتسامته الواسعة التى تزيده وسامة وجاذبية وهو يجيبهم معلقا ً عينيه بـالجالسة بجواره مضطربة فهى رغم إعتيادها على تلك الحفلات الصاخبة إلا أنها تخجل من كونها محط أنظار الجميع وقد زاد إضطرابها وهى تسمعه يقول:
- أنا كتبتها ولحنتها مخصوص علشان عيد ميلاد "حبيبة "
أنهى كلمته وهو يأخذ كفها برقة بين أصابعه ويطبع عليه قبلة صغيرة ناظرا ً إليها متابعا ً :
- كل سنه وإنتى طيبة يا حبيبتى
فجأة شعرت بيد تجذبها بقوة إستدارت بجسدها دفعة واحدة محاولةً تحرير مرفقها وهى ترفع رأسها إرتطمت عينيها بوجه أختها الكبرى "نشوى" بقوامها المعتدل وراسها المرفوعة وأنفها الشامخة بتكبر وأعتداد وثوبها الأسود الصارخ وعينيها الثاقبتين التى لم تشع يوما حباً أو تفهماً لها .. تصنعت "نشوى" المرح وهى تقلب عينيها بين الجميع وتدعوهم إلى مأدبة الحفل
علت الأصوات وتسابق الشباب والفتيات بمرح بينما إكتفت "حبيبة" بإلقاء نظرة عدم رضى إلى أختها التى إنتزعتها بشكل لا يليق من بين أصدقائها ثم لحقت بها  بجوار"شادى" مستكينة إلى منتصف سطح السفينة حيث تحلق معظم المدعويين حول تلك الطاولة الكبيرة التى تتوسطها كعكة ضخمة أشارت "حبيبة" بيدها إلى أختها الأصغر "سلمى" ذات السادسة عشر ربيعا ً لكى تأتى وتقف بجوارها فقد كانت تقف كعادتها فى الخلف بمفردها ترتدى نظارتها الطبية الرقيقة وثوبها الابيض المنسدل ليرسم لوحة فنية صغيرة عنوانها مشروع طبيبة ..
أطفأت بعض مصابيح سطح السفينة الملونة وتطاير الشرر حول الشموع النارية الصغيرة والتى تصدر أصوات قرقعة مبهجة ممزوجا ً بموسيقى هادئة تسللت بنعومة إلى آذانهم من خلال السماعات الصغيرة المنتشرة بحرفية كبيرة فى تلك السفن الضخمة ..
وبعد قليل هدأ الصخب قليلا ً وبدأت الموسيقى الناعمة البطيئة فى العمل ووقفت "نشوى" وسط الساحة الراقصة تبحث بعينيها عن زوجها المنشغل دائما إما بعمله أو بمضاحكة الفتيات وما أن رأته حتى أشارت له برأسها إشارة صغيرة لا يفهمها غيره جعلته يقترب منها مبتسما ً ويتناول كفها بين يديه ويلف يده الأخرى ليلامس ظهرها وبدأ فى مراقصتها كما يفعل الجميع .. أبتسمت له أبتسامة غاضبة وقالت:
- هو أنا لازم أشاورلك علشان تيجي
تنحنح "راغب" وهو ينظر بخفة إلى يساره ثم يعود برأسه إليها بنظرة مبتسمة خاوية:
- آسف يا حبيبتى مخدتش بالى أنك لوحدك
نفضت غضبها منه وهى تشرأب بعنقها ناظرة إلى المرأة الأربعينية التى كانت تسير بصحبة والدها ثم توقفا بجوار "حبيبة" وخطيبها "شادى" .. وبدون أن تتساءل لمح زوجها النظرة الفضولية المطلة من عينيها بضراوة فقال معرفا ً:
- دى يا ستى السبب الرئيسى فى أن حفلة عيد ميلاد أختك تتعمل فى القاهرة
تحولت بعينيها إليه بتساؤل أكبر فأوما برأسه مؤكداً لحديثه وهو يتابع بسخرية:
- المدام صاحبة شركة من أكبر شركات الإنتاج الفنى هنا فى القاهرة
ثم غمز بعينيه بخبث قائلا ً:
- ومتخصصة فى أكتشاف المواهب الشابة
رفعت حاجبيها بدهشة وما لبثت قليلا ً حتى إنفرجت شفتاها عن ابتسامة صغيرة ماكرة وهى تنظر إلى والدها الذى يقوم يتعريف "شادى" إلى المرأة التى كانت تصافحه بل تفحصه ومن الواضح أنه يتحدث عنه بحماس زائد  .. الآن فقط زالت دهشتها فمنذ أن قرر والدها إقامة حفل  ميلاد "حبيبة" فى القاهرة وفى تلك السفينة الضخمة تملكتها الدهشة والفضول فهى تعلم طبيعة والدها جيدا ً الذي لا ينفق قرشا ً زائدا ً إلا إذا أيقن أنه سيعود إليه آلاف مضاعفة لذلك إعتقدت فى البداية أنه سيستغل الحفل لإقامة صفقات ما مع رجال الأعمال الذين يعملون بمدينة القاهرة فقط ولقد صدق حدسها عندما وجدته يبرم بعض الصفقات الصغيرة مع أحدهم ولكنها رفعت له القبعة فى تلك اللحظة لأنه إستطاع أن يستغل الأمر أيضا ً ويتخلص من "شادى" هذا المتطفل الذى دخل عائلتهم بناء على رغبة محبوبته وحدها وها قد حان الوقت للتخلص منه بلا رجعه فلم يكن يوما يليق بتلك العائلة العريقة ! ..
وضعت السيدة "بثينة" أطراف اصابعها على كتف "شادى" وهى تنظر إلى "حبيبة" بابتسامة باردة وقالت بتسائل:
- تسمحى يا "حبيبة" آخد خطيبك شويه
إبتسمت "حبيبة" إبتسامة متوترة وهى ترى "شادى" ينقل بصره بينهما بنظرات مرتعشة من فرط سعادته وإندهاشه من وجود شخصية مثل السيدة "بثينة" المعروفه بتبنى الوجوه الشابة من خلال شركة إنتاجها الكبيرة وحديثها معه بحماس عن موهبته وصوته الذى إستمعت إليه منذ قليل ولفت إنتباهها وتتوقع له مستقبل مبهر وإنتشار واسع فى الأوساط الغنائية ..
قررت "حبيبة" أن تمنحه الفرصة التى يطلبها منها بعينيه ونظراته الزائغة وإبتسمت وهى تومىء برأسها موافقة وإنسحبت من دائرة الرقص متجهةً إلى والدها مباشرة وعندما إقتربت منه وقفت بجواره وهى تهمس بإذنه بإضطراب:
- لو سمحت يا بابا عاوزاك فى حاجه مهمة
إلتفت الرجل الذى كان يقف بصحبة والدها إليها ثم أطلق صفيرا ً منغما ً وهو يتفحصها بعينيه عن كثب موجها ً حديثه لوالدها :
- مقولتش يعنى يا "سليم" باشا إن عندك بنات حلوين أوى كده
إبتسم "سليم" بإرتباك وهو يعرف إبنته إلى الرجل قائلا ً:
- "حبيبة" بنتى الوسطانية فى رابعة آداب السنة دى
إبتسمت "حبيبة" إبتسامة مغتصبة إنفرج جزء من ثغرها بصعوبة لها وهى تومىء مجاملة للرجل الذى عرف نفسه على الفور بفخر:
- طبعا ً أكيد عارفانى  محدش فى مصر كلها مبيشوفش أفلامى
تابع والدها حديث الرجل موضحا ً:
- "مدحت" باشا يا "حبيبة" أكيد تعرفى الأفلام اللى الجروب بتاعه بينتجها
أومأت مرة أخرى وهى تقول بإقتضاب:
- أهلا يا فندم
مد يده على الفور إليها وهو يقول بثقة:
- تسمحى تشرفينى وتوافقى ترقصى معايا
وضع والدها كفه على ظهرها وهو يربت عليه وينظر لها نظرة تعرفها جيدا ً وتحفظها فى تلك المواقف التى تكرهها ولكنها لا تستطيع الرفض .. إستجابت ليده الممدودة إليها ووضعت راحتها بداخلها بسكون فأخذ يدها بحركة مسرحية وقبلها ثم أخذها إلى ساحة الرقص الصغيرة وبدء فى مراقاصتها وشرع في الحديث عن نفسه وأعماله وقتا ً لا بأس به وهى مغيبة تماما ً مشتتة الفكر وهى تنظر إلى "شادى" الغارق فى الحديث الهامس والإبتسامات الصغيرة مع رفيقته الأربعينية التى بادلتها نظرات باردة وهو تقول موجهةً حديثها إلى "شادى"  :
- خطيبتك شكلها بتغير عليك أوى يا فنان
ألقى "شادى" نظرة على "حبيبة" الشاردة ثم عاد بنظراته إليها وقال نافيا ً:
- لا أبدا دى حتى "حبيبة" متربية تربية سبور ومتفتحة خالص

  عادت "حبيبة" من خضم أفكارها المتلاطمة إلى أرض الواقع عندما شعرت بضغطة صغيرة على خصرها وسمعته يقول بنبرة لم تعجبها :
- تعرفى يا "حبيبة" عليكى بروفايل يجنن الشاشة هتحب وشك أوى
أبتلعت ريقها مضطربة وهى تقول بتوتر:
- لا أنا ماليش فى حكاية التمثيل دى خالص
رفع حاجبية بدهشة وهو يقول ساخرا ً:
- ليه .. التمثيل حاجة مش صعبة مش محتاج غير ذكاء وجمال وبس
نظرت فى إتجاه آخر وقد تغير وجهها محاولة البحث عن مخرج يجعلها تستأذنه بلباقة وتنصرف بدون مشاكل وهى تتذكر كلمات والدتها الموبخة لها دائما ً " لما حد يتطاول ويضايقك إتصرفى بلباقة وذكاء وبلاش شغل الفلاحين بتاعك ده أنا مش عارف إنتى ليه مش ذكية زى أختك " نشوى"  ..! 
توقفت الموسيقى الهادئة لتخرجها من أفكارها المتناثرة التائهة وتهديها الحل السحرى لإنسحابها بهدوء بدون أضرار .. تعللت بالإرهاق وهى تنسلخ من بين ذراعيه مبتعدة وهى تخطو خطوات واسعة سريعة كأن وحوش الأرض تطاردها ونعل حذائها العالى يطرق الأرض طرقات صغيرة إختلطت بالموسيقى الصاخبة التى أعلنت عن نفسها بضراوة ..
وجدت نفسها أمام الدَرج الذى يؤدى إلى الطابق الأسفل من السفينة .. هبطت سريعا ً وهى تكاد تسمع أصوات دقات قلبها مختلطة بصوت أنفاسها اللاهثة .. كان الجزء الأسفل مظلم بعض الشىء وهدير أمواج مياه النيل البطيئة تعلن عن نفسها بوضوح أكثر وأعمدة الأنارة على إحدى الكبارى تعكس ضوءها الخافت على ذلك الجزء التى تقف فيه .. أستندت إلى أحد الأسوار الخفيضة بمرفقيها وهى تنظر إلى المياه بعقل شارد .. لماذا أقترح والدها اقامة السفر إلى القاهرة لمدة يومين واقامة الحفل على ضفاف نيلها قطعاً لم يفعل ذلك من أجلها ربما هى صفقاته التى لا تنتهى .. شعرت بحنين بالغ إلى مدينتها عروس المتوسط .. الأسكندرية .. برمالها وشطئانها وأمواج بحرها المتلاطمة  مما جعلها تتمسك بحافة السور المنخفض والمواجه لها مباشرة وقد وجدت إبتسامة طفولية مشاغبة طريقها أخيرا ً إلى شفتيها وهى تحاول الجلوس عليه وهى تجاهد تلك الرهبة الخفية التى تسللت إلى قلبها مع إندفاع الهواء إلى رئتيها وهى تشاهد المراكب الصغيرة السابحة بجوار السفينة العائمة بهدوء وإبتسمت وهى ترى طفل صغير يقف على مقدمة إحدى تلك المراكب بثقة ويشير لها بكلتا يديه فأشارت إليه بإبتسامة واسعة وحماس كبير .. كانت تنشد الأبتعاد و الهدوء  ولكنها لم تتحصل إلا على القليل ولم تترك لها المفاجآت فرصة كافية ..
جاءتها صرخة بإسمها من الخلف جعلتها تجفل وتضطرب .. وتنزلـق .. إرتطم جسدها بالمياة الباردة لتبتلعه ظلمتها الحالكة فى ثوانى معدودة .

الثلاثاء، 18 مارس 2014

روايــة .. حــكــايــة حـبـيـبـة

بسم الله الرحمن الرحيم


رواية .. حكاية حبيبة



مقدمة


قرأنا كثيراً وسمعنا أكثر عن تلك الثمرة العجيبة اللامعة التى إقتسمتها سيدتان وقد كانت كل منهما تحمل جنينا ً فى رحمها وبعد عدة أشهر أنجبت كلتاهما وضعت الأولى أنثى والثانية ذكراً لهما بريق خاص كثمرتهما , وبعد قليل إفترقتا وذهبت كل منهما فى طريقها تحمل رضيعها بعيدا ً عن الآخرى ولكن الروحان الصغيران لم يفترقا يوما ً , ظل كل منهما طيلة أيامه يشعر بالضياع ولا يعرف لماذا ..! , يبحث عن شِقِهِ الضائع ويشعر بغيابه الذى لم يسبقه حضور ..! , يجذبهما كل شىء وأى شىء له علاقة بنصفه الآخر , يقربه منه ولو خطوة واحدة , حتى إلتقيا أخيرا ً وإنصهرا فى بعضهما البعض وإلتحمت روحيهما من جديد .
بلا منطق بلا أسباب يستطيع كلاهما أن يشعر بالآخر عن بُعد و يفـك شيفرة الآخر , يقرأ ما يدور بخلده وقلبهِ  بنظرة واحدة , وبتلك النظرة يتواعدا فيتلاقا فى أحلامهما ليبث كل منهما شوقه وحزنه للآخر , وما أن يعودا إلى واقعهما يتخبطا بين جدران حقيقتهما المريرة ويطل الندم برأسه يطرق آتون الذنب بداخلهما فيلهب ضمائرهما نهاراً ويحملهما إلى زمهريرة ليلا ً , إلى أين ينتهى بهما المطاف بعد أن تقابلا بعد فوات الاوان ؟؟ .. , بعد أن اصبح كل منهما ملكــاً لآخر  ..!!