الأربعاء، 23 أبريل 2014

روايـــة حكايـــة حبيبــة ... الفصل السادس

روايــة حكايـــة حبيبـــة

الفصل السادس

طرقات منغمة على باب غرفته من الخارج جعلته يبتسم وينادى بسأم:
- أدخل يا رخم
فُتح الباب ودلف "خالد" إلى الداخل برأسه فقط مداعبا ً :
- سالخير
تبسم "حسام" ضاحكا ً وهو يعتدل فوق فراشه جالسا ً ويشير إليه بالدخول قائلا ً:
- سالنور يا لذيذ .. تعال
أغلق "خالد" الباب خلفه وصاح مرحا ً وهو يفتح ذراعيه عن آخرهما :
- وأخيرا ً العاشق الولهان هايعترف  
عاد بظهره إلى الوراء وإستلقى بهدوء وأمسك وسادته التى يحب أن يضعها دائما فوق رأسه أثناء نومه وقال محذرا ً:
- لو ماتكلمتش على طول هاسيبك وأنام
اقترب "خالد" وجلس بجواره بطرف الفراش وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة متعجبا ً :
- من إمتى بتخبى عليا يا "حسام"  .. قال وأنا اللى جاى أفرحك
اعتدل مرة أخرى جالسا ً وقال وهو يشير بسبابته متسائلا ً:
- إوعى تقول العروسة وافقت عليك
هندم "خالد" ملابسه بغرور وهو يقول:
- طبعا وافقت هى كانت تقدر ترفض هو أنا شوية فى البلد ولا إيه
ثم ضرب جبينه بحماس مردفا ً:
- أييوه يا جدع
رفع "حسام" حاجبية معقبا ً فى سرعة:
- إيه ده هى العروسة إسكندرانية برضه ؟
التفت إليه "خالد" بجسده كله دفعة واحدة صائحا ً:
- وقعت بلسانك يا وحش معنى كدة إن اللى مطيرة النوم من عينك إسكندرانية صح ؟
شرد بذهنه فى الفراغ المقابل له وتمتم بإبتسامة إحتلت شفتيه عنوة :
- مطيرة النوم بس دى مجننانى
أمسك "خالد" بوجه "حسام" وأداره إليه بحركة سريعة وسعى إلى إستجوابه على الفور قبل أن يتراجع :
- قولى بسرعة عرفتها إزاى وفين وناوى معاها على إيه
أزاح "حسام" يده متأففا ً قائلا ً:
- كل اللى أقدر أقوله دلوقتى إنها سابت إسكندرية وجات هنا القاهرة .. أخدت عنوانها بالعافية من صاحبتها هناك ومش هاقولك حاجة تانية إلا لما أقابلها الأول
ثم استدرج متسائلا:
- ها حددت معاد الخطوبة ولا لسه
زفر "خالد" بقوة وهو يعيد ذراعيه إلى الخلف ويستند إليهما وقد إرتسمت الحيرة على وجهه وعلت قسماته قائلا ً:
- أبوها مصمم على كتب الكتاب مش خطوبة وبس
إلتفت إلى "حسام" عندما إنتهى من عبارته فوجده يحثه فى متابعة الحديث فقال :
- عارف لما اتصلت بيه علشان أحدد معاه معاد أول مرة .. إدانى معاد بعد أسبوع ولما روحت قابلته لقيته عمل عليا تحريات وعرف عنى كل حاجة .. عيلتى مين شغلى إيه كل حاجة عنى وأول ما فاتحته فى موضوع بنته وافق على طول ومن غير تردد لا وكمان بعدها بقى هو اللى بيضغط عليها علشان توافق .. غريب أوى الراجل ده
ثم التفت إليه مرة أخرى:
- أبوها مادى أوى يا "حسام" بس أمك بقى مرتحالها..
بتر عبارته وإعتدل كأنه لُدغ فى التو ونظر إلى الباب فتنهد وعاد برأسه إلى "حسام " متابعا ً بهمس:
- قصدى مامتك مرتحالها جدا ومتحمسة وبتقولى مالكش دعوة بأهلها المهم هى
أنهى عبارته وألقى بجسدة إلى الفراش مسترخيا ً مغمض العينين
اتسعت إبتسامته وهو ينظر إلى حركات "خالد" متفحصا ً .. لن يكبر أبداً سيظل "خالد" هو "خالد" متهور تصرفاته صبيانية مهما مضت به السنين .. لازال يحب عمته كثيرا ً ويخشى إغضابها كثيرا ً أيضا ً ويحاول تنفيذ تعليماتها حتى وإن لم تتوافق مع طبيعة شخصيته من فرط حبه لها وتقديره لها ولتربيتها له منذ أن كان فى السابعة عشر من عمره فى بيتها وبجوار إبنها بعد ذاك الحادث المروع الذى راح ضحيته والديه وأخيه الأصغر وأخت "حسام" الصغرى "حنين" والتى كانت تصغره بعام واحد فقط ..
" حنين" التى اُقتلعت من بستانها ومن بين مثيلاتها من الزهرات المتفتحة اليافعة وفارقت الحياة وفارقته ! .. أخذت معها قلبه وكاد أن يفقد عقله بعد علمه بما حدث للجميع فى تلك السيارة المحطمة على الطريق السريع .. لم تكن إبنة عمته فقط بل كانت حلم الطفولة والصبا ..
 وحجر الأساس الذى إنهار فتهاوت معه حياته وتطلعاته بل وإيمانه أيضا فحاول الإنتحار بعدها ولكنه صُدم عندما علم لأول مرة أن المنتحر لا يدخل الجنة أبدا ً فعدل عن الفكرة وهو يتأمل السماء الصافية ويتخيل "حنين" ترتع بين طبقاتها فرحة سعيدة بثوبها الأبيض كبياض الثلج تنتظره ببستان جنتها
ولم لا وهى من كانت يطلقون عليها ملاك العائلة وهى من خاضت حربا ً قبل الحادث بثلاثة أشهر فقط من أجل رغبتها فى إرتداء الحجاب ونفذت رغبتها بتصميم غريب وأسدلت على جسدها ما يخفيه وواظبت على الصلاة ولم تُرى بعد ذلك إلا ومصحفها بيدها وإبتسامتها الصافية ترسم أجمل نقاء روحى  بعينيها ..
تخيلها تنظر إليه نظرة عتاب طويلة لمحاولته قتل نفسه فيحرمهما اللقاء الأبدى المرتقب .. عدل عن الفكرة نهائيا ً وإحتفظ بحياته ولكنه مع الوقت بدء يفقد الكثير فى المقابل ..!!
لم يشأ "حسام" أن يخرجه من تلك الحالة التى تنتابه على فترات متباعدة فهو يعرف تلك النظرة جيداً إنه الآن سابح مع ذكرياته .. هو الآن يذكر " حنين" .. أخيته الصغرى ملاكه البرىء روحه التى فارقته ولم تعد إلا فى تلك اللحظة الوهمية التى رأى فيها "حبيبة" تحت سطح الماء لأول مرة ..تشبهها كثيرا ً .. ملامحها .. صوتها .. لغتها الجسدية .. وبراءتها وربما سذاجتها أيضا ً .
أجفلا حينما دوت طرقات سريعة على باب الغرفة إنتشلتهما من بحر الذكريات .... من حنينهما .. زفر "خالد" زفرة طويلة بينما أجاب "حسام" بحزن :
- أدخل
أطلت الخادمة بجزء من جسدها وهى تقول بأدب :
- كابتن "حسام" أستاذ "طارق" على التليفون
أومأ برأسه فخرجت فى التو وأغلقت الباب خلفها بهدوء .. إعتدل جالسا ً ورفع سماعة الهاتف الملحق بغرفته .. لم يلتفت " طارق" إلى بحة الحزن بصوت صديقة فتكلم مندفعا ً كعادته قائلا ً:
- إنت فين يا "حسام" دايخ عليك بقالى كام يوم ومحدش عارفلك طريق وحضرتك قافل تليفونك وبتتفسح فى اسكنرية ولا على بالك
أغمض عينيه وزفر بقوة فقد تملك منه الضيق والفتور أكثر وهو يجيبه:
- ما تهدى يا عم إنت فى إيه مالك داخل زى القطر كده ليه
عاد إليه صياح "طارق" حانقا ً:
- لا ولا حاجة ,,, بسيطة خالص كل الحكاية إن إفتتاح الجيم بعد يومين وفيه أجهزة حضرتك لسة ماركبتهاش والناس بيتصلوا يسألوا على تفاصيل أنا مش عارفها والدنيا تضرب تقلب ..
ها كدة كويس ولا أقول كمان .. ده كان يوم منيل يوم ما فكرت أشاركك يا أخى
ابتسم "حسام" رغما ً عنه فهو عادة لا يخرج من إحدى حالات حزنه إلا بمشاكسة ما
وقال بسخرية :
- إنت هاتعمل فيها شريكى ولا إيه ما كانوش 10% دول  وواخدهم عافية كمان بعد ما قعدت تتحايل عليا
زمجر "طارق" مصطنعا ً الغضب وقال:
- إسمع يابنى إنت أنا مستنيك في الجيم حالا تنط فى الهدوم وتبقى عندى فى ظرف دقايق ... أنا محتاس يا "حسام"
وضع السماعة بعد أن أنهى مكالمته وقد وعده أن يكون أمامه بعد دقائق قليلة وبالفعل لم تمر سوى  خمسة دقائق وكان فى السيارة متجها ً إليه وبداخله حروب ومنازعات يجيش بها صدره ..
لقد نسى أمر مشروعه كليا ًمنذ أن سافر للبحث عنها والآن هو فى ورطة حقيقة ..
الإفتتاح بعد يومين و لا يزال أمامه الكثير لإنجازه وبعد الإفتتاح سوف ينشغل أكثر فحتى الآن لا يوجد مدرب معتمد غيره والجميع يريد التدرب تحت يده .. الجدول مزدحم بشدة .. وفى نفس الوقت يريد الذهاب إليها باحثا ً عن مكان إقامتها ويحاول الوصول إليها ليبدأ معها مشروعه الكبير والمصيرى ..
هل من الممكن أن يؤجل اللقاء أياما ً ليست بالكثيرة حتى يهدأ دوران الأرض من حوله قليلا ً فيذهب إليها وهو فى فسحة من وقته خالى الذهن ؟.. فهى أغلى عنده من أن يمنحها بعض عقله وبعض ساعاته .. فماذا سيفعل ؟!
***
وقف أمام "طارق" عاقدا ً ذراعيه فوق صدره بإبتسامة مرحة عالقة بين شفتيه وهو يستمع إلى "طارق" الذى كان متقمصا ً دور المرشد السياحى وهو يشرح كل شىء عن المكان بحماس شديد كتدريب له على حفظ جميع أسماء الأجهزة التى ذكرها له "حسام" سابقا ً وكيف يعمل كل جهاز على حدا و"حسام" مستمتع بدور الضيف الثقيل الذى يسأل عن كل شىء وأى شىء ويؤديه بإتقان فهو خبير فى المشاكسة والمناورة بشكل كبير وبدا "طارق" مسترسلا ً فى الحديث وهو يقول:
- والدور اللى تحت زى ما شوفنا كان للأجهزة والتمرينات أما الدور ده بقى ساونا وتدليك وطبعا الرجالة ليهم أيام ومواعيد محددة غير مواعيد الستات
عض "حسام" شفتة السفلى ساخرا ً متصنعا ً الضيق وهو يقول :
- يا خسارة
ثم لوح بقبضته بضجر فى وجه "طارق" محذرا ً وهو يقول متعجلا ً:
- إخلص ياض بدل ما أشرحك
أمسك "طارق" بقبضته وقبلها وهو يقول بترجى :
- لا أبوس إيدك إبعد القبضة المدمرة دى عنى
أعاد "حسام" ذراعيه فوق صدره كما كانا بينما قال "طارق"  بجدية لا تتناسب مع المزاح الذى سبقها منذ لحظات :
- الدور ده بقى هيبقى للناس الهاى كلاس مش أى حد .. عاوزين بقى نسميه إسم يليق بيه
ابتسم "حسام" ثم تنفس بعمق وقال بعينين حالمتين :
- هايبقى اسمه " رُكن حبيبة "
عقد "طارق" حاجبيه وقال متسائلا ً :
- رُكن حبيبة ؟! .. إشمعنى ؟
أجابة "حسام" وهو يتركه منصرفا ً :
- وأنت مالك يا رخم
***
ثمانية أيام فاصلة تغيرت بعدها الحياة من النقيض إلى النقيض .. فى لحظة ما وكأن الكون قد سكن مرهفا ً آذانه لتلك الضربات القاسية التى أوجعت فؤاده .. وكأن البحر قد تجمد فجأة لتحجر تلكما العينان وكأنه خشى أن يتحرك بأمواجه فيثير غضب تلك العروق النافرة المحتقنة فيتلقى لكمة تُخرس هديره إلى الأبد ..
كان الجميع يتحرك حوله مباركا ً عقد القران وهو مازال مذهولا ً يضغط أضراسه حتى كاد أن يهشمها دون وعى .. يقبض راحته بقوة وغضب حتى هربت الدماء منها خشية أن يمزق أوردتها  تحت جلده .. إنها هى .. "حبيبة" ! .. تجلس إلى جوار"خالد" تعلو شفتيها إبتسامة خفيفة ..
لازالت عينيها تبرقان تكادا أن تمطرا .. تكاد أظافرها أن تتآكل وتنسلخ من فرط عبثها القوى بها توترا ً وحنقا ً .. لا تجد مسلكا ً لريقها بداخل حلقها وهى تنظر إليه .. نظرات مبهمة وربما متساءلة أو ربما حائرة .. إقتربت والدته وجذبته من ذراعه ناهرة إياه برفق وبصوت منخفض:
- إتأخرت كدة ليه يا "حسام" .. المأذون كتب الكتاب من بدرى
نظر إليها وقد تركت عيناه العروس الحائرة معلنا ً لها تركها إلى الأبد وأجاب وهو ينظر إلى الفراغ:
- دايما باجى متأخر يا ماما
جذبته مرة أخرى وسارت به  بإتجاه العروسين  بينما سار هو خلفها كطفل ضاع من عائلته وفقد الطريق فجأة وأظلم كل شىء من حوله فلا يكاد يسمع ولا يكاد يبصر وبالجهد ينطق كلماته .. بينما تمتمت وهى تسير بجواره :
- يالا علشان تسلم على العروسة وتبارك لـ"خالد"
المرة الأولى التى يحتضن فيها "خالد" ببرود .. المرة الأولى التى يشعر فيها أنه يريد أن يهشم وجهه بل ويحرق كل شىء حوله .. كان "خالد" يتحدث بحماس وهو ينظر له وكأنه شخص آخر وكأن "خالد" قد إنقسم إلى نصفين بل إلى رجلين رجل منهما صديق عمره الذى لا يتورع عن أن يفتديه بحياته والآخر رجل بغيض إختطف منه محبوبته لا يستحق سوى القتل ..
عندما بسط كفه لمصافحتها شعر بيدها تحرقه وهى تزحف فى كفه ببطء ووجل .. ضغط كفها بقوة آلمتها وعتاب قتلها وثارت لأجله خواطرها الراكدة
يا إلهى !! كيف أستطيع أن أرى الكلمات مرتسمة بأحداقه بوضوح هكذا .. لماذا يعاتبنى لماذا ينعتنى بالخائنة ؟ بل أنت من ترك وتخلى  .. أنت من يحب أخرى كما قيل لي .. بل لا يوجد بيننا أى شىء على الإطلاق يدعوك لتلك النظرة الغاضبة ..
يدعوك إلى كتابة تلك الكلمات القاتلة في عينيك .. أرجوك إبتعد الآن ولا تفسد عليّ يومي كما أفسدت عليّ أحلامى .  
لم تكن هى الوحيدة التى إستطاعت أن تقرأ ما بعينيه بل فوجىء هو الآخر بأنه يستطيع ذلك .. هى تدعى أنه لا يوجد بينهما ما يستدعى غضبه بل ولا تعرف لماذا أنا غاضب .. بل وتأمرنى بالابتعاد .. تركها وإبتعد سريعا ً كدوامة تسرع بإتجاه سفينة تريد أن تبتلعها .. هدرت أمواجه بعنف وزأرت وحوش غاباته وهو يفك ربطة عنقة بغضب وانفعال خارجا ً من القاعة ولكن نداءا ً واحدا ً فقط لم ولن يستطع يوما ً أن يتجاهله .. أقبلت والدته بإبتسامة عريضة متساءلة بسعادة:
- رايح فين يا "حسام" عاوزاك ف حاجة مهمة أوى
أشاح بوجهه يخفى ما تلبس به من غضب وهو يقول:
- خارج أشم شوية هوا بره
أدارته إلى جهة اليمين وأشارت إشارة خفية إلى إحدى الطاولات الغير بعيدة وهى تقول باهتمام مغلف بالفرحة :
- شايف البنت اللى زى القمر اللى قاعدة هناك دى
لم ينظر ... لقد كان يحاول بذل أقصى ما فى وسعه للسيطرة على إنفعالاته بشتى الطرق ولكن رغما عنه قال بعصبية :
- مالها يا ماما
فهمت والدته عصبيته بشكل آخر وقالت بحزم:
- أسمع بقى يا "حسام" أنا كل ما أجيبلك عروسه تعملى فيها الشويتين دول لكن خلاص بقى كفاية .. "خالد" اللى أصغر منك أهو إتجوز مش فاضل غيرك والمرة دى هاتوافق يعنى هاتوافق
نظر إليها بملامح خاوية وجبين منعقد فتابعت بنفس بحسم:
- البنت ممتازة يا "حسام"  .. أبوها لواء سابق فى الجيش ومربيها تربية جامدة على النظام والجدية يعنى متقلقش مش زى البنات اللى تعرفهم .. والنادى مبتروحوش إلا مع والدتها وزى ما إنت شايف كده لبسها محتشم وشخصيتها قوية والكل بيشكر فيها بصراحة وأنا متأكدة إن أخلاقها هاتعجبك .. ها قلت إيه ؟
عندما تندفع السهام إلى قلوبنا بلا رحمة بأيدى من نحب نفتح لها صدورنا بإبتسامة رضا ولا نحاول أن نتفاداها فالموت هنا لن يكون بسبب النصل .. سيتغلغل السهم فى القلب ليجده قد مات بالفعل قبل أن يصل إليه وفقد قدرته على النبض وسيبصر النصل لوحة رُسمت على الشغاف بدماء الحياة لحروف كلمة .. خيانة ..
نظر إلى والدته نظرة إستغاثة يرجوها بها أن تكف عن الحديث فهو الآن فى لحظة ضياع كاملة ربما يظلم بسببها إنسانة أخرى لا ذنب لها فيما حدث له .. ظلت تتحدث وتضغط وظل يستمع ويضيع أكثر كلما إلتفت إلى "خالد" وعروسه الخائنة بلا خيانة الحائرة بلا سبب حتى كاد أن ينفجر ..
تنهدت والدته بشفقة وقالت بحنان:
- ماتخبيش عليا لو فى واحدة تانية قول أنا مش هامانع
إبتسم بمرارة وحرك رأسه نفيا ً فاستطردت قائلة :
- يبقى تقول موافق وسيب الباقى عليا
وبعد صمت طويل اعتصر قلبه ألما ً وندما ً ...  تطايرت فيه أحلامه من أمامه كأوراق الشجر في مهب الريح نطق بحروف مبعثرة وعينين محتنقتين بالدم المندفع إليهما قائلا ً:
- موافق

الاثنين، 14 أبريل 2014

بــقايــا أمــرأة





جلست تحدق بى تختنق الدموع بعينيها وتصر على عدم الهطول تصر على التحديق ياترى أهى مصدومة إلى تلك الدرجة أم هل فقدت عقلها ..أمسكت بكفها المرتعش بين راحتي وأبتسمت بتفهم أطرقت براسها تنظر إلى يدى وقبضت بقوة عليها .. شهقت بعنف وبدأت الأحداق تمطر بلا توقف وتعلو الشهقات واحدة تلو الأخرى .. ما بكِ يا صديقتى ؟ لم اقولها ولكنها قرأتها فى عينيى أختنق صوتها وأضطرب حلقها تحولت المرارة إلى حاجز كبير يطبق على حروفها يمنعها التنفس قبل الحديث .. ربت على كتفها لاشد من أزرها وسحبت يدى أجفف دمعها ثم عدلت من خصلات شعرها المتناثرة والتى اصرت على الألتصاق بوجنتها هل ترتوى دمعا أم تخفى علامات الشيخوخة التى ظهرت قبل أوانها بكثير .. وأخيرا تنفست وارعدت وارتجت بقوة بين يدى .. لم تحاول أن تسيطر على ارتعاشة جسدها لم تحاول أن تتجمل أمامى فهى تعلم من أنا وأنا اعلم من تكون . قالت بآنات متواصلة وشهقات متقطعة " صديقتى" لقد نفذ عمرى وشبابى وصباى ومالى وأحوالى إلى جوار بئر سحيق ليس له آخر ليس له قاع كلما أعطيت كلما ابتلع بنهم يلتهم أعصابى يوميا يلتهم حياتى يوميا يلتهمنى وأنا الاسيرة فى محرابه لا أعلم لى ملجا غيره ولا بيت غير بيته ولا فراش غير فراشه ظلت هكذا لسنوات كلما رايت نقائصه تماديت فى جهلى كلما أخذ كلما أعطيت مشيت على حافة جحيمه سنوات وسنوات معصوبة العينين وأخيرا ابصرت .. ابصرته ولم تكن تلك المفاجأت لكبرى .. لكن ما قطع أوصالى أنى ألتفت إلى مرآة حياتى لقد تغيرت يا صديقتى لقد تغيرت كثيرا فقدت نضارة فؤادى حُرمت صبا أملى لم أتعرف إلى نفسى .. ما هذا الشىء الذى يسمى أنا .. من تلك المرأة العجوز فى سن الشباب من هذه مستحيل أن تكون أنا .. ماذا فعلت به لصفح أحلامى ويرمى بها إلى قبوه السرمدى قدمت كل شىء وفى النهاية أطعمنى الحسرات تلو الحسرات وزين طبقه المفضل بالحرمان .. الحرمان من كل شىء .. من كل شىء .. لماذا .. لماذا .. وظلت تردد سؤالها اللانهائى مرات ومرات وانا صامتة لا جواب لدى لا علم لى .. أنا أعرفها منذ سنين لقد كانت نضرة متفتحة يكسوها الحماس من كل جانب متطلعة دائما للمستقبل تنتظرة لتعطيه كل الحب وكل القلب وكل الروح .. جمعت مشاعرها له وحده وحفظتها من كل دنش له وحده وجلست تنتظره تحلم وتحلم  وهاهى الان تسقط تسقط بعنف تسقط بقوة أرى حديثا بين شفاها خجلت من قوله أرى قلبها ينبض ببعض الكره بعض الحقد والكثير من الحسرة والندم .. ايعقل أن نكره من أحببنا يوما ؟ !! أيعقل أن نحقد على من منحناهم أعمارنا وكل ما نملك طواعية ؟!! .. وبكل تصميم وحزم قالت بعنف .. لا أريده لم يعد زوجى حتى وإن بقيت فى بيته ارعى أولاده ولكنه لم يعد زوجى ولم يعد قلبى له .. أرتجفت عندما تخللت كلمتها الأخيرة بأذنى "لم يعد قلبى له " ؟ .. صديقتى إذن اصبح قلبك لمن ؟ صديقتى أتعقلين ما تقولى ؟ أبتسمت بمرارة قاتمة بالليل الحالك السواد وهى تنفث جحيم نارها المتأججة بصدرها .. نيرا ن أمرأة مهملة مهد لها زوجها طريقاً للفتن ووضعها على مشارفة وتركها وحدها تخوضه ياترى هل هى خائضة ؟ ارتمت بين ذراعى لملمتها بين أضلعى .. حاولت أن أطفىء بعض لهيبها ببعض كلمات الصبر والسلوان ولكن يبدو ان النيران مشتعلة بقوة وأحرقت ما بداخلها كل شىء جميل .. لقد أحرقت جمال روحها وعِفت لسانها وسكن قلبها حتى أصبحت تنكر نفسها تكاد تخطأها فى المراة !! أنها  أمرأة لم تلقى سوى الأهمال والهجر والصمت القبيح الذى كان صخبه يقتلها ويشق صدرها يحرثه حرثاً شديدا ليبذر فيه بذور الندم على ما كان .. وقفت عند بابى تودعنى شعرت أنها تودعنى حقاً شعرت أنها لن تعد مرة أخرى لقد كانت متهالكة للغاية متعثرة خطواتها .. ستعود إلى بيتها بيتها التى حلمت أن تعيش فيه أمراة .. أمرأة كاملة وبعد كل تلك السنون خرجت منه بقايا أمرأة .. ناديتها فألتفتت تمسح دمعها فوجدتنى اقول .. "صديقتى دموعك تلك تستحقها سجدة بين يدى الله ولا يستحقها رجل أحمق " .

الأحد، 13 أبريل 2014

رواية حكايـــة حبيبــــة .. الفصل الخامس

روايـــة حكايـــة حبيبــــة

الفصل الخامس

وأمام ضراوة صفعات الدنيا المتوالية لا نتألم كثيرا ً من صفعات كفوف المقربين منا , إنما هي فقط تجعلنا نرتد إلى الخلف مبتعدين فى الوقت الذى نتمنى فيه الإقتراب منهم أكثر , نتمنى  لو نرتمى فى أحضانهم , تحتوينا صدورهم وقلوبهم وهمساتهم الداعمة لنا .. لذلك لم تؤلمها الصفعة التى هوت ببعض الضعف مرتطمة بوجنتيها بل ما آلمها أنها لم تجد حضن والدتها  فيه بعض المتسع لها ..
ترقرق الدمع بعينيها وهى ترى خيوط الغضب منسلة من عينين أمها وهى تجذب حقيبتها المعلقة بيدها بقوة وتفتحها لتتناول هاتفها المحمول وتشد عليه قبضتها صائحة بغضب:
- لا دخول ولا خروج ولا حتى تليفونك هيفضل معاكى .. أنا عمرى ما كنت أتصور إن بنتى أنـا .. بنت "فريدة" هانم تروح تجرى ورا صعلوك زى ده .. إتفضلى على أوضتك مش عاوزه أشوف وشك ..
أخفت وجهها خلف راحتها وهى تسرع نحو غرفتها بخطوات تقترب إلى العدو لا تعلم هل تخفى دمعها أم تتأكد أنها قد صُفعت بالفعل ... آوت إلى غرفتها وأسرعت إلى فراشها ..أغمضت عينيها وهى تبلل شفتيها بحرقة وألم .. تشعر بأنها تغلق عينيها على أشواك تنغزها بين جفنيها بلا توقف .. وألم عظامها ينخر بقوة بين مفاصلها طالبة بعض الراحة والسكينة بعد كل ما مرت به .. ولم لا قد يكون النوم بعض سُبل الهرب المريحة لذلك القلب المنهك والجسد المتهالك الذى كاد أن ينتهك هو الآخر .
***
***
كادت أن تصبح فى عزلة تامة لولا أن أسرعت بها الأيام وإقتربت مواعيد إختبارات الجامعة .. حاولت أن تتواصل مع إحدى صديقاتها المقربات عن طريق الهاتف الأرضى وإنغمست قليلا بين دفتى كُتبها خائضة فى مضمار ( الهام و المقرر والملغى ) متناسية ما حدث لها فى تلك المدينة القاهرة لها دائما وما تبعها بعد ذلك فى الإسكندرية فى محاولة مستمية فى أن تطوى ذكرياتها طيا ً غير مزعج لا يترك خلفه آثار واضحة على شخصيتها التى تميل إلى البساطة والتصالح مع الذات ومع من حولها ..
وفى نهاية آخر يوم من أيام الإختبارات وقفت بصحبة صديقتها المقربة وقد إستندت صديقتها إلى سيارتها الحمراء وقالت بسعادة:
- بجد مش مصدقة إننا خلصنا إمتحانات
رفعت "حبيبة" نظارتها الشمسية وهى تلتفت إليها معقبة:
- قصدك خلصنا الكلية خلاص
فرقعت صديقتها بإصبعيها وهى تقول بمرح:
- وبالمناسبة الحلوه دى هافسحك فسحة النهاردة عمرك ما حلمتى بيها

أنهت عبارتها وهى تفتح حقيبتها مستطردة :

- هى فلوس أبوكى دى مش هتخلى عندها دم وتجيبلك عربية يالا إركبى على ما أشوف مين بيتصل

مطت "حبيبة" شفتيها بعدم رضا وهى تلوح بيدها بضجر قائلة :

- قولتلك قبل كده مليون مره مبحبش السواقه ..أعصابى خفيفه وبعدين مالها يعنى التاكسيات

 أشارت إلى "حبيبة" وهى تقول بدهشة:
- إستنى ده رقم مامتك هو إنتى موبايلك مش معاكى برضه ولا إيه
زاغت نظراتها وهى تنظر إلى صديقتها لا تعلم بماذا تجيب ثم قالت بإرتباك :
- مش عارفه بنساه كتير ليه كدة الأيام دى
صمتت وهى تستمع إلى صديقتها تحدث والدتها لثوانى ثم تناولت الهاتف من يدها ووضعته على أذنها بإرتباك قائلة:
- أيوا يا ماما ..
صمتت قليلا ً تستمع إلى حديث والدتها وما بين حاجبيها يضيق أكثر فأكثر وهى تقول بخفوت حائرة:
- فجأة كدة .. طب ليه ؟
لم تجيبها والدتها إجابة شافية فأومات برأسها بدهشة وإضطراب وهى تقول :
- حاضر يا ماما  ربع ساعة وهاكون عندك
أنهت الحديث مع والدتها ومدت يدها بالهاتف إلى صديقتها وهى تنازع الحيرة والدهشة نزاعا ً شديدا ً قائلة ببطء:
- ماما عاوزانى حالا ً يا " ندى"
مطت " ندى" شفتيها قائلة:
- ليه فى حاجة ؟
نظرت لها نظرة طويلة حائرة ثم قالت غير مصدقة:
- فجأة كدة قرروا نسيب إسكندرية !
***
عادت إلى منزلها لتجمع أشيائها لا تعلم ماذا تفعل فبرغم أن تلك الغرفة شاهدة على ذكريات أليمة إلا أنها تعنى الكثير لها ففيها ترعرعت وفيها عايشت أحلامها ومستقبلها ومكتبها الصغير الذى كانت تجلس خلفه تدون الأحداث الغريبة التى تمر بها والمشاعر الغير مفهومة التى تشعر بها أحيانا ً .. كانت تود لو تحمل معها تلك الغرفة الوردية بكل تفاصيلها إلى القاهرة فكل زاوية فيها شاهدة على أيامها ولكن منذ متى وأحداً يستجيب لمتطلباتها أو يشعر بما تحتاجه تذكرت حديثها الواهى مع صديقتها منذ قليل عن السيارة ..أنه نفس المبرر الذى تقوله للجميع عندما يسألونها لماذا لا تمتك واحدة وهى من هى ! بالفعل ليس لديها قوة أعصاب تؤهلها للقيادة ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد ! .. وقفت فى منتصف الغرفة حائرة تنظر إلى الدُمى المتراكمة فوق فراشها .. إنها جميعاً مفضلة لديها لكل دُمية منهم ذكرى جميلة مع أحدى صديقاتها فى مراحل عمرها المختلفة .. حاولت كبح جماح رغبتها فى جمع المزيد منهم  فأوامر والدتها كانت محددة وواضحة والتوتر والعصبية هما السائدان بين أرجاء المنزل  .. ولم تتبين الكثير من الأسباب لهذه النقلة الكبيرة والغير متوقعة على الإطلاق ولكنها علمت أهم تلك الأسباب والذى كان سببا ً رئيسيا ً لما يحدث ..
إنها تلك الأزمة المالية التى عصفت بأركان عمل أبيها عصفا ً شديدا ً كاد أن يهز أركان سمعته كرجل أعمال بارز وبدأت الديون تلاحقه يوما ً بعد الآخر هو وزوج إبنته وشريكه فى كل شىء ..
مما إضطره إلى اللجوء إلى مكان آخر بعيد يستطيع من خلاله أن يتوازن من جديد ويرمم تلك الصدوع كما نصحه الكثير من أصدقاءه فى القاهرة  بل وعرضوا عليه فتح آفاق جديدة له هناك بجوارهم .. ولحسن الحظ أنه كان يمتلك هناك بيتا ً جيدا ً فى مكان راقِ للغاية ..
جمع عائلته بالكامل ورحل إليها تاركا ً مدينته الساحلية بكل ما فيها .. عادت إلى القاهرة للمرة الثالثة وقلبها يرجف .. ياترى ماذا تخبئين لى هذه المرة أيتها الظالمة .. تركت مدينتى وذكرياتى وطفولتى وأحب الأماكن إلى قلبى من أجل أن آتيكِ وأنتِ التى شاهدت فيكِ ما شاهدت وكرهت فيكِ ما كرهت .. إنها نفس الأعمدة المتلاحقة نفس الصحراء وكثبان الرمال الخاوية المميتة إنه نفس الطريق الذى سقيته من قبل بدموعى ذهابا ً وعدتُ منه بنصف قلب ونصف عقل وحلم تجسد أمامى وأصبح حقيقة ! .. فإلى أين تأخذيننى هذه المرة
ربما قد أحبت هذا المنزل الجديد عليها وربما لو كانت ستحبه أكثر لو لم يكن يقبع فى تلك المدينة التى لا تنام .. كانت غرفتها فيه أشبه بغرفتها فى منزلهم القديم فى الإسكندرية إلا أنها كانت أكثر إتساعا ً وأكثر رفاهية .. المنزل مكون من ثلاث طوابق تحيطهم حديقة من ثلاث جهات .. سيُجهز الطابق الأول للشركة الجديدة التى سيعيد من خلالها والدها أمجاده وثروته وسيكون الطابق الثانى لأختها " نشوى" وزوجها "راغب" أما الطابق الثالث فستقطن فيه مع والدتها ووالدها وأختها الصغرى "سلمى" التى حصلت على التقدير التى كانت تتمناه وتحلم به فى المرحلة الثانوية ولم يكن يشغلها كثيرا ً أمر إنتقالهم إلى القاهرة بل كل ما كان يشغلها هو كلية " صيدلة " وفقط فلقد حققت حلمها بالإلتحاق بها ولا يعنيها بعد ذلك أي شىء ..
***
- " الرقم المطلوب ربما يكون مغلقا ً أو غير متاح "
زفر بقوة وهو يطرق بأصابعه بضيق شديد على سطح الطاولة التى يستـند عليها بمرفقيه متمتما ً بحيرة :
- برضه مغلق
شعر بمن وضع يده على كتفه من الخلف ممازحا ً:
- هو مين ده اللى مغلق
إلتفت "حسام" إلى مُحدثه بضجر واضح قائلا ً:
- مالكش دعوه يا عم "خالد"
إقتربت منهما برزانة ووقار وجذبت إحدى المقاعد حول الطاولة جالسة ببطء وهى تقول بإستنكار شديد:
- كل اللى يسألك تقوله مالكش دعوة حتى " خالد " كمان .. لا ده إنت حالتك بقت صعبة أوى يا "حسام"
جلس "خالد" وهو يقول بشغف :
- إيه ده .. ده الموضوع بجد بقى .. يعنى عمتو ليها حق تشتكيلى منك
نظر "حسام" إليه وعقب مستنكرا ً:
- بقى في واحد طول بعرض داخل على التلاتين يقول عمتو
ضحك "خالد" بجـذل بالغ وقال وهو يلوح بيديه:
- إنت فاكرنى شوارعى زيك ولا إيه يا فان دام
زفر للمرة الثانية وهو يضرب راحته بقبضته الأخرى موجها ً حديثه إلى والدته :
- عاجبك كدة يا ماما مالقتيش غير الهايف ده وتشتكينى ليه
أسندت ذقنها إلى قبضتها وهى تنظر إليه متفحصة :
- أعملك إيه حالك مش عاجبنى بقالك كام يوم  .. وبعدين ده إبن خالك الله يرحمه وصاحبك هو أنا إشتكيتك لحد غريب
تناول"خالد" الهاتف من أمام"حسام" وأخذ يبحث فيه بفضول وهو يقول :
- ولا إشتكيتك ليا ولا حاجة يا وحش .. عمتو بس شايفاك بالك مشغول وعاوزه تطمن عليك مش أكتر
جذب "حسام" الهاتف وتناول سلسلة مفاتيحه ونهض وهو يلقى عبارته الأخيرة قبل أن يغادر:
- ولا بالى مشغول ولا حاجة إطمنوا مافيش حاجة .. أنا رايح الجيم
إستوقفه "خالد" قائلا ً بضيق :
- كمان ناسى معادنا النهاردة 
عقد "حسام" بين حاجبيه محاولا ً التذكر وقال متسائلا ً :
- معاد إيه ؟
زفر "خالد" وقال حانقا ً:
- هو أنا مش قولتلك يابنى إنت .. إنى معجب بواحدة وحددت ميعاد مع أهلها علشان أتقدملها
إبتسم "حسام" ساخرا ً وقال:
- وأنا هافتكر مين ولا مين ما أنت كل يوم تطلعلنا فى الموال ده مع كل واحدة شوية وفى الآخر بتفركش
تدخلت والدته فى الحديث قائلة بثقة:
- لا المرة دى شكله مصمم بجد
هز رأسه يمنة ويسرة متعجبا ً وقال وهو يقطع الممر إلى باب الشقة :
- يا ماما هو أنتى مابتحرميش كل مره يضحك عليكى كدة وبعدين ترجعى تقولى مش هادخله فى حاجه تانى وبرضه بتدخلى مفيش فايدة
خرج وتركهم وقبل أن يغلق الباب خلفه شعر بـ"خالد" يتمسك بمقبض الباب من الداخل ليبقه مفتوحا وإشرأب برأسه للخارج وهو يغمز بإحدى عينيه بمكر:
- مين دى اللى شغلت "حسام الصياد" بجلالة قدره للدرجادى  ؟
إبتسم "حسام" إبتسامة واسعة وهو يدفع رأس "خالد" للداخل قائلا :
- يا أخى ده أنت غتيت أوى
أغلق الباب وإنطلق وقد عزم على قطع تلك المسافات اللعينة التى تفصل مدينتيهما عن بعضهما البعض .. بينما ينظران إلى بعضهما البعض عاد "خالد" فى الداخل إلى الطاولة حيث كانت تنتظرة بحيرة بالغة وما أن إقترب منها حتى نهضت قائلة:
- مش قولتلك يا "خالد" حاله عجيب اليومين دول
جلس  "خالد" مرة أخرى وتناول ثمرة تفاح من أمامه على الطاولة وقضم قطعة منها وهو يقول ببساطة:
- بكره هاعرفلك ماله بالظبط يا عمتو مش هيقدر يخبى عنى كتير ما إنتى عارفة أنا كاتم أسراره إطمنى .. المهم بس ياله إستعدى معادنا مع الناس قرب
رفعت حاجبيها بإستنكار وهى تنظر إليه وهو يأكل ثم قالت معترضة:
- أنا مش قلت قبل كده التفاح يتقطع بالسكين .. بتاكل كدة ليه
ضحك بشدة بينما  توجهت هى  إلى الداخل قائلة بتقزز:
- أنت و"حسام" هتجيبولى الضغط
لم يستطع أن يتوقف عن الضحك بعد أن رأى علامات التقزز واضحة على وجهها .. إنتقل إلى غرفة المعيشة وجلس يشاهد التلفاز وماهى إلا لحظات ووجدها تخرج منفعلة بشدة ممسكة بهاتفها وتصيح بغضب:
- شايف عمايله يا " خالد " باعتلى رسالة حاولت أتصل بيه بعدها لقيته قفل تليفونه
إعتدل "خالد" بإهتمام وقال متسائلا ً:
- رسالة إيه دى؟
- بيقول مسافر إسكندرية يومين...!
***
قضى نحو أسبوعان بالإسكندرية فى رحلة تقصى وجمع معلومات بشكل متواصل حتى إستطاع أن يجمع قدر وفير كان كافيا ً جدا ً لإسعاده فلقد كان ينوى حرق تلك المسافات التى تفصلهما ولكنه تفاجأ بأنها هى من سبقته ورحلت إلى القاهرة منذ شهور قليلة وإستقرت بها ..
لقد ذابت المسافات تلقائيا ً إذن ولم يبقى إلا القليل الذى سيذيبه بطريقته الخاصة ! .. قطع الطريق مرة أخرى عائدا ً من حيث جاء .. جاهد عقله فى السيطرة على تلك المشاعرالمتأججة بوجدانة فى محاولة غير جادة للسيطرة عليها وتقييد أفكاره الهاربة إليها تاركة المساحة الكافية لفؤاده أن يبعثه أينما شاء ويعيده متى أراد مما جعله يعبث ببعض الإسطوانات المدمجة أمامه وإختار إحداها وهى المسجل عليها بعض الأشعار المسموعة لنزار قبانى وبصوته فقط ..
إبتسامة منتشية تحمل الكثير من النشوة واللهفة بين طياتها لاحت فوق شفتيه وهو يستمع إلى الكلمات التى تنطق بما يجيش بصدره وظل يتمتم خلفه مرددا ً:
- أشكوكِ للسماء .. كيف إستطعتى أن تختصرى جميع ما فى الأرض من نساء
- أنا عنكِ ما أخبرتهم .. لكنهم لمحوكى تغتسلين فى أحداقى
- أنا عنكِ ما كلمتهم .. لكنهم قرأوكِ فى حبرى وفى أوراقى
- للحب رائحة وليس بوسعها أن لا تفوح مزارع الدراقِ
لم تتوقف شفتيه عن الإبتسام لمدة طويلة رغم توقف الإسطوانة عن الدوران وظل محتفظا ً بها معظم الطريق حتى قطع إبتسامته رنين هاتفه ..
نظر للهاتف وإلى شاشته المضيئة بإسم "خالد" وأجابة بسعادة واضحة :
- "خلود" عامل إيه
إلتفت "خالد" إلى عمته بجواره فى السيارة متعجبا ً ثم قال مازحا ً:
- معلش يا فندم تقريبا ً الرقم غلط أصل اللى كنا عاوزين نكلمه واحد كئيب كده أعوذ بالله منه
ضحك "حسام" ضحكات رنانة إستمعت لها والدته الجابسة بجوار "خالد" فابتسمت رغما ً عنها بينما أردف "خالد" متسائلا ً :
- أنت فين يابنى أخيرا ً حنيت عليا ورديت على تليفوناتى
تنفس بقوة يملأ رئتيه بالهواء العابث الذى يعبث بوجه تارة وبخصلاته تارة أخرى ثم قال :
- أنا راجع القاهرة إنتوا فين دلوقتى
إبتسم "خالد" بمرح :
- يدوب لسه واصلين تحت بيت خطيبتى وقلنا نكلمك قبل ما نطلع
رفع "حسام" حاجبيه وأجاب بدهشة بالغة:
- يا راجل ! لحقت تبقى خطيبتك ؟
مرر "خالد" أصابعه بين خصلات شعره وقال بغرور:
- طبعا يابنى هو أنا حد يقدر يقولى لاء
ثم تابع بقلق:
- المشكله بس إنها لسه موافقتش رغم إن أهلها موافقين جدا وقلت نييجى النهاردة أقعد معاها وأحاول أقنعها
قال "حسام" ساخرا ً:
- يعنى العروسة لسه موافقتش وتقولى خطيبتى طب روح إلعب بعيد بقى
عقد "خالد" حاجبيه وقال وهو يترجل من السيارة ويدور حولها ليفتح الباب لعمته وهو يقول بثقة:
- هتوافق هى هتروح منى فين المهم بقى شد حيلك عاوزين نتجوز فى يوم واحد ولا السفرية دى راحت عليك أونطة
قال"حسام" بتفكير:
- لا أونطة إيه خلاص كلها خطوة واحدة وهاتسمع أخبار حلوة أوى
جذبته عمته من ذراعه إلى الداخل وأخذت الهاتف من يده ووضعته على أذنها وهى تقول على عجلة من أمرها:
- حمد لله على سلامتك يا حبيبى لما تروح البيت أبقى طمنا إنك وصلت لازم نقفل دلوقتى طالعين عند الناس
أغلق الهاتف وواصل الطريق إلى منزله .. صعد الدرج الكبير المؤدى إلى بوابة العقار من الخارج  وهو يبتسم لكل من يواجهه إبتداءا ً من حُراس العقار مرورا ً بالخادمات التى كدن أن يصطدمن به على السلم الذى كان يسابق درجاته صعودا ً فهو كعادته لا يستقل المصعد إلا قليلا ً إلى أن إستقر به المقام بداخل شقته ..
ألقى التحية كعادته على خادمتهم بالمطبخ وهى منشغلة بإعداد الطعام ثم توجه إلى غرفته .. فتح الخزانة الخاصة به وأخرج صورة كان قد رسمها بيده منذ عام تقريبا ً وبالتحديد فى آخر ليلة من ليالى رمضان .. جعل ينظر إلى الصورة ويبتسم وهو يمنى نفسه باللقاء المرتقب وأخيرا ً تذكر كلمات والدته وهى توصيه بالإتصال بهما فور وصوله ..
أضاءت شاشة الهاتف الخاص بــ"خالد" باسم "حسام" وصورته الشخصية .. كان موضوعا ً على الطاولة الصغيرة أمامهما وهو جالس بجوار فتاته وعلى مقربة منها ..
إلتقط "خالد" الهاتف فى سرعة وأجاب وهو ينظر إليها معتذرا ً تحدث إليه قليلا ً وبكلمات مختصرة ثم عاد إليها ملتفا ً بجسده كله وهو يقول :
- أنا آسف والله على المقاطعة .. ها كنا بنقول إيه
إبتلعت ريقها بصعوبة وإصفر وجهها إضطرابا ً بعد أن إلتقطت عيناها الصورة والإسم اللذان أضاء بهما شاشة هاتفه وقالت بإرتباك:
- لا أبدا ً مافيش حاجة كنت كمل كلام عادى مع صاحبك
دهش "خالد" فلقد كانت صامتة تماما ً لم تتفوه سوى بأنها غير مستعدة الآن للزواج أو الإرتباط ثم صمتت وكأنها كانت تخبره رفضها بشكل لائق بهذا الصمت ولذلك وجدها فرصة سانحة ليخرجها عن صمتها وقال ببساطة:
- لا مفيش حاجة إزاى ..وبعدين ده راجل مبسوط بقى وبيحب وماكنش هايبطل رغى
صمتت مرة أخرى ولم تجيبه فقال وهو يحاول أن يختلق أى حديث بينهما :
- أهو صاحبى ده مأجل معاد جوازه بسببنا يرضيكى يعنى كدة
رفعت رأسها إليه متسائلة :
- هو هيتجوز قريب ؟
أجاب على الفور :
- أه طبعا .. ده بيحب وغرقان لشوشته ومش عاوز يحدد معاد جوازه إلا لما إحنا نحدد الأول
ثم إعتدل فى جلسته بحماس وهو يتابع:
- أنا مش عارف إنتى مترددة ليه إدينى فرصة طيب وأوعدك إنك مش هتندمى ..
قولتى إيه يا حبيبة ؟. 

السبت، 12 أبريل 2014

رواية حكايـــة حبيبـــة .. الفصل الرابع

روايــــة حكايـــــة حبيبــــة

الفصل الرابع


ها هو الضوء الأبيض قد عاد من جديد ليضرب ناظريها ها هو جسدها يشعر مرة أخرى بالفراش الوثير الذى يسكن فوقه .. لماذا تكرهها تلك المدينة إلى هذا الحد .. لماذا كلما عصفت بها الرياح إليها آذتها وقذفت بها مرة أخرى فى أعماق نيلها ومرة أخرى بين أنياب ذئابها ..
أغمضت عينيها التى فشلت فى فتحهما وهى تتحسس تلك الضمادة التى تحيط برأسها وتشعر ببعض الدوار يلفها وفجأة إنفرجا جفنيها بشدة وفتحت عينيها المجهدة وهى تشهق بلوعة ورعب  وإنتفضت جالسة عندما طرقت ذكرى السويعات القليلة الماضية ذاكرتها بجنون ..
صور متقطعة لثوانى رهيبة مرت بها داخل السيارة بين يدي خاطفيها .. سيارة تقاوم الرمال محاولة السير بأقصى ما تستطيع .. صرخاتها المكتومة فى راحة يد الجالس بجوارها ..
دموع منهمرة .. مقاومة فاشلة .. توقفت السيارة وفُتحت أبوابها وفُتح معها الجحيم ..
جسدها يُسحل خارج السيارة ويُلقى به إلى الرمال .. لا تعلم كيف توازنت .. لم تسقط وبدأت بالركض .. لحقا بها سريعا ً .. كبلها أحدهم للآخر ..
مصابيح سيارة قوية قادمة .. طلقات نارية .. دُفعت بقوة .. سقطت .. ثم إرتطام رأسها بأحد الصخور ..
تداخلت الأصوات ثم صمت كل شئ من حولها
.. سكون .. رؤية مشوشة لأحدهم قادم ويقترب منها ينزل على ركبتيه وينظر إليها عن قرب متفقدا ً حالها عاقدا ً جبينه قلقا ً ... ثم دهشة ...  
تحركت شفتيه بكلمات لم تسمعها .. ثم غيبوبة أخرى غاصت فيها حتى الأعماق ..
- إوعى تعملى زى الأفلام وتقولى إنك فقدتى الذاكرة
إلتفتت إلى محدثها وهى تضيق عينيها ناظرة إليه محاولة تبين ملامحه أكثر وأكثر حتى إتضحت تماما ً أمامها ..
فركت عينيها ثم حدقت في وجهه الباسم بدهشة بالغة عاينته سريعا ً بنظرات مضطربة ..
يا إلهى إنه هو .. ملامحه الجذابة  .. عضلاته المفتولة البارزة .. بنيانه القوى ..
هو نفسه ... مُنقذ المياة هو نفسه مُنقذ الصحراء ولكن كيف ؟!! ..
لقد كانت تعتقد أن ما رأته فى المياة وهي تغرق مجرد وهم ..
فكيف يصبح الوهم حقيقة ويعود من جديد لينتشلها مرة أخرى ..
هل يتجسد الوهم إلى هذا الحد حتى نظنه حقيقة ؟!! 
ولكنه يجلس أمامها ويبتسم ويتحدث وتسمعه بأذنيها فكيف ذلك؟! ..
- إنتى يا شاطرة .. هتفضلى تبحلقى فيا كده كتير
جاهدت لُتخرج صوتها بصعوبة وكأنه عالق داخل حلقها وقالت بإرتياب:
- هو أنت بجد؟
نهض واقفا ً بحركة مسرحية وهو يلوح بذراعيه صائحا ً بسخرية :
- أنا قلت بالكتير هتعملى فيها فاقدة الذاكرة لكن ماكنتش عامل فى حسابى أنك هتطلعى هبلة
فُتح الباب ودلف الطبيب بمعطفه الأبيض وإقترب من سريرها بخطوات رصينة وهو يقول مبتسما ً :
- حمدلله على السلامة يا آنسة
وقبل أن تُجيبه أردف مطمئنا ً :
- متقلقيش الحمد لله كابتن " حسام " أنقذك فى الوقت المناسب
نظرت إليه فوجدته يعقد ذراعيه فوق صدره ويزم شفتيه ثم يقول بغرور زائف :
- لالا مفيش داعى تشكرينى ده واجب عليا
رفعت حاجبيها ببلاهة ثم عادت إلى الطبيب بناظريها الذى تابع حديثه بإهتمام :
- إحنا أخدنا رقم والدك من تليفونك وإتصلنا بيه  إرتاحى لحد ما يوصل
ثم إلتفت إلى "حسام" وأشار إليه بسبابته محذرا ً :
- أنا هامر على كام حالة وأرجعلك تانى .. مش عاوز إزعاج للآنسة
أومأ "حسام" برأسه معاتبا ً :
- رغم إنك ظالمنى بس حاضر يا "على" مش هعمل إزعاج
يبدو أنهما صديقان ويبدو أنه مشاغب من الدرجة الأولى .. بمجرد أن خرج الطبيب من الغرفة جلس على طرف الفراش فى مواجهتها قائلا بشك وبنظرات ثاقبة :
- إيه اللى خلاكى تركبى معاهم العربية
نظرت إليه بغضب ..هل يُلمح لشىء ما ؟ ..
لا لقد تجاوز كثيراً لن أسمح له بالحديث معى بتلك الطريقة ..عقدت جبينها وإنفرجت شفتاها ثم وجدت نفسها تقول بخفوت :
- أنا كنت عاوزه أروح المحطة علشان أرجع إسكندرية وماكنتش لاقيه مواصلات خالص
إستند بظهره إلى الخلف وهو يقول معقبا ً:
- كان معايا حق لما قلت عليكى هبلة
حدقت به مرة أخرى غير مصدقة الطريقة التى يتحدث بها إليها دون سابق معرفة ..
لم يبالى بنظراتها المحرقة واستطرد متسائلا ً :
- وإيه بقى اللى جابك القاهرة لوحدك كدة
إنتفضت بغضب وهى تصيح :
- وإنت مالك إنت ... تعرفنى منين علشان تقعد تحقق معايا كدة
شعرت بصداع عنيف يهاجمها على أثر صياحها فرفعت ذراعيها لتمسك برأسها بقوة ولكن الألم قد إزداد حدة وسمعته يقول ببرود :
- طب أنا هاسيبك ترتاحى
نهض وإستدار ليخرج وعندما إقترب من الباب إستوقفته وهى تقول بخفوت متألمة :
- هو أنت أنقذتنى إزاى ؟
إستدار إليها بإبتسامة غامضة زادته جاذبية وهو يقول :
- صدفة ..!
ثم أردف وهو يفتح الباب بهدوء ويمرر أصابعه فوق خصلات شعره المتمردة :
- أنا مش هامشى أنا بره لحد ما والدك ييجي
إختفى خلف الباب المغلق بهدوء فأغمضت عينيها بقوة وهى تستلقى ببطء وتزفر بقوة متمتمة بدهشة :
- مستحيل ..!
ماذا يحدث أنه حقيقى ليس وهماً ولكن مهلاً هذا ليس وقته الآن فهى تنتظر عاصفة الغضب التى ستأتى محملة بكل ماهو خانق بصحبة والدها .. كيف ستبرر أفعالها الغير مسؤلة أمامه والتى كادت تودى بها إلى الهلاك ..خفق قلبها بشدة قلقاً وهى تستمع إلى دقات ساعة الحائط المعلقه أمامها وكأن كل دقة فيها تنذرها بقدومه وبقرب العقاب .. وأخيراً استسلمت للنوم العميق بعد فشلها فى ابقاء عينيها مفتوحتان فهى فى مكان غريب عليها لا تعرف فيه أحداً سوى شخص واحد لازالت حتى هذه اللحظه تشك فى وجوده من الاساس .
أرتكن بظهره إلى الحائط وأستند برأسه إليها وهو يضغط جبينه بقوة من فرط الأرهاق والأجهاد الذى يشعر بهما وهو يجيب صديقه الطبيب بحسم:
- يا "على" مش هامشى غير لما أبوها يجى ريح نفسك
رفع "على" حاجبيه وارتسمت على شفتيه إبتسامة ماكرة معقبا ً:
- يبقى زى ما أنا توقعت ... دى واحدة بقى من حريمك ولا إيه يا دنجوان
إلتفت إليه بضجر قائلا :
- بلاش كلام فاضى هو البعيد مابيعرفش يميز كمان
حك "على" ذقنه بحيرة وهو يقول :
- أمال إيه بس .. تعرفها طيب ؟
لم يستطع أن يمنع تلك الإبتسامة الجذلة التى إرتسمت رغما ً عنه فوق شفتيه وهو يتمتم :
- مش بالظبط
زفر "على" بقوة وهو يستعد للمغادرة :
- بقولك إيه الحكاية مش ناقصة فوازير أنا النبطشية بتاعتى خلصت والنهار طلع هاتيجى معايا ولا هاتفضل هنا ؟
ألقى "حسام" نظره خلف كتفي"على" وهو يشير بعينيه إلى أحدهم خلفه  
ويقول بهدوء :
- تقريبا ً اللى جاى ده أبوها
لم يكن من الصعب تميز رجل غاضب آتى من بعيد يتلفت حوله وينظر إلى أرقام الغرف على الجانبين فوضع يده على كتف صديقه قائلا ً :
- اسمع يا "على" زى ما قلنا تحت فى الإستعلامات البنت جات هنا نتيجة حادثة سرقة ماشى ..
إلتفت إليه متعجبا ً وكاد أن يصيح إلا أن "حسام" أشار إليه أن يخفض صوته فقال :
- آه بس ده أبوها يا "حسام"
نظر له بحزم وقد دنى منهما الرجل الغاضب ووقف وهو يوجه كلامه للطبيب متسائلا ً بإنفعال :
- أنا والد "حبيبة سليم" حضرتك دكتور "على " اللى كلمتنى مش كده
إزدرد على ريقه وهو يوزع نظراته بينه وبين والدها وحاول أن يبدو واثقا ً من حديثه وهو يقول :
- أيوا يا فندم أنا
أومأ والدها برأسه بحركات عصبية وهو يعقد حاجبيه قائلا :
- ممكن أعرف إيه اللى حصلها بالظبط
عدل من وضع نظارته الطبية كمحاولة لبث الثقة فى نفسه وهو يقول :
- الآنسة إتعرضت لحادثة سرقة وكابتن "حسام" أنقذها وجابها هنا المستشفى
إلتفت والدها إلى "حسام" الذى مد يده على الفور مصافحا ً ومعرفا ً بنفسه :
- "حسام الصياد" مُدرب لياقة بدنية
تفحصه والدها لثوانى وهو يصافحه ثم قال بضيق :
- عملت محضر ولا حاجة يا أستاذ " حسام "
إرتفع حاجبيهما بدهشة بالغة  فلقد توقعا أن يسأل عن تفاصيل الحادث وماذا حدث لإبنته وماهى حالتها الصحية الآن ..
يبدو أنه قرأ ما يجول بخاطرهما فى نظراتهما المتعجبة فتنحنح وقال متحرجا ً :
- أنا أصلى رجل أعمال وسمعتى هى رأس مالى والصحافة ما هاتصدق علشان تكبر الموضوع
نظرا إلى بعضهما البعض فى صمت فتابع على الفور موجها ً حديثه للطبيب :
- ينفع أخدها دلوقتى يا دكتور
وقبل أن يجيب إندفع "حسام" مقاطعا ً :
- الدكتور كان بيقول إنها المفروض تعمل أشعة النهاردة علشان نطمن
نظر له "على" بنظرات ثاقبة و بضجر واضح
تركهما ودلف سريعا ً إلى الداخل .. تكلم "على" بغضب ولكن بصوت خفيض قائلا :
- أنت بتستهبل يا "حسام" هتتدخل فى شغلى كمان
زفر"حسام" بقوة وهو يعود إلى حالته الأولى مستندا ً إلى حائطه مغمض العينين يجيش صدره بالكثير من المشاعر والتساؤلات الحائرة ولكنه لم يستطع أن يتجاهل تلك المعركة التى كانت تدور فى الداخل ولكن من طرف واحد !..
إقتربت قبضته الكبيرة من مقبض الباب يحاول أن يمنع نفسه من الدخول ولكن صوت بكائها كان قويا ً يجذبه إليها كأنه يطلب منه الحماية ويدعوه للدخول بشدة
بكت بقوة وهى تجلس فوق فراشها وتضع كفيها فوق وجهها بؤسا ً وألما ً .. تُخفى عينيها المنكسرة وهى تستمع إلى إهانات والدها المتتالية كرماح تخترق صدرها وقلبها وتكوى فؤادها كيا ً شديدا ً ..
- جايه تجرى وراه بعد ما سابك وفسخ الخطوبة ورماكى إنتى إيه ماعندكيش دم ماعندكيش إحساس .. عارفة لو كانت الحادثة دى وصلت للصحافة كان هايحصل إيه ..
عاوزه تفضحينا يا "حبيبة"
ودت لو صرخت لتخرج ما يعتمل فى صدرها ..
لم تأتى لتسترجعه وإنما لتواجهه وتتأكد من الخبر بنفسها وتعرف لماذا لم يواجهها وينفصلا بإحترام ورُقى ..
نعم أخطأت ولكنها عوقبت وبشدة .. يكفى لحظات الرعب التى مرت بها فى الصحراء بين يدي خاطفيها ..
تحتاج إلى الإحتضان إلى الشعور بالأمان بين ذراعى والدها ...
ولكنها لم تتلقى سوى كلمات مميتة تخنقها وتجرحها وتنزع عنها كرامتها وآدميتها لتبقيها فى العراء تُسحق عظامها بداخل رحى الحياة بلا مأوى حقيقى تلتجأ إليه وتحتمى فيه ..
جذبها من كتفيها وهو يمسكها بقوة وإنفعال :
- هانرجع إسكندرية دلوقتى ومن هنا ورايح مفيش خروج من البيت إلا لما تعرفى تحافظى على إسم عيلتك ..
إحنا مش ناقصين بلاوى كفاية الخسارة اللى نازلة ترف على دماغنا
شعر بمن يضع يديه على كتفيه من الخلف مهدئا ً :
- إهدى شوية يا فندم الدكتور بيقول الإنفعال خطر عليها دلوقتى
تركها وإلتفت إلى "حسام" الذى كان يقف خلفه ويقف "على" بجواره كتلميذ مطيع تلقى تعليمات فورية من أستاذه وحان وقت إلقائها فقال :
- كدة خطر عليها يا فندم إحنا لسه ماطمناش على المخ  وبعدين المستشفى هنا تفهمت الأمر ووافقوا إن مفيش محاضر تتعمل علشان حالتها كويسة لكن لو حصل مضاعفات ممكن يغيروا رأيهم .
زفر والدها بقوة وهو يبتعد عنها ثم أخرج هاتفه وتحدث إلى والدتها للحظات بإنفعال وهو يقص عليها ما حدث ثم مد يده إليها بالهاتف دون أن ينظر إليها ..
وضعت الهاتف على أذنها بإرتجاف تساءلت والدتها عن حالتها الصحية بإقتضاب ثم أردفت بجمود وهى تنهى المحادثة :
- لينا كلام تانى لما ترجعى
تنحى والدها جانبا ً بعد أن تناول الهاتف ليستكمل حديثه إلى والدتها مرة أخرى وتركها بجانب فراشها ترتجف كالعصفور المبلل بماء المطر .. إقترب "حسام" منها وقال بخفوت :
- والدك عارف إنها حادثة سرقة
إلتفتت إليه بعيناها المغطاة بالدمع وهى تبتلع ريقها بصعوبة ..
كانت تود أن تشكره لأول مرة منذ أن عادت إلى وعيها ولكنه قطع عليها الطريق وتابع بخفوت وهو ينظر إليها بإشفاق :
- ماتخافيش كل حاجة هتبقى كويسة .. خاليكى أقوى من كدة
أطرقت برأسها أرضا ً وهى تبحث عن كلمات تشكره بها ولكن حروفها تعثرت كعادتها وخذلتها فأطبقت شفتيها بقوة وتركت لدمعها العنان لعله يجيبه بدلا ً عنها
***
عادت إلى الإسكندرية مخذولة تكفكف دمعها وهى تستمع إلى سيل الكلمات الحارقة التى تسيل من فم والدها بلا توقف حتى أنقذها هاتفه من شذره المتطاير وإنشغل بمحدثه طويلا ًً وتركها تستند إلى ظهر مقعدها فى السيارة بجواره وتلتفت إلى الطريق وكثبان رماله المتلاحقة ..
أغلقت عينيها حزنا ً .. ووجدت إبتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها بالقوة وتغزوها شغفا ً عندما تذكرت آخر عبارة تمتم بها بهدوء بالقرب منها قبل أن ترحل بصحبة والدها
"معلش بقى تليفونى كان ضايع فاضطريت أرن عليه من موبايلك لو لقيتى رقم غريب فى سجل المكالمات عندك إعرفى إنه رقمى " ..
يبدو أن صديقه الطبيب كان محقا ً إنه مزعج بل ومشاغب بالفعل ولكن خلفه سر كبير ولكن ليس لديها حاجه ملحةً فى معرفته الآن فليبق السر سرا ً ولكنها كانت مخطئة قد يبقى سرا ً ولكن ليس كثيرا ً .