السبت، 12 أبريل 2014

رواية حكايـــة حبيبـــة .. الفصل الرابع

روايــــة حكايـــــة حبيبــــة

الفصل الرابع


ها هو الضوء الأبيض قد عاد من جديد ليضرب ناظريها ها هو جسدها يشعر مرة أخرى بالفراش الوثير الذى يسكن فوقه .. لماذا تكرهها تلك المدينة إلى هذا الحد .. لماذا كلما عصفت بها الرياح إليها آذتها وقذفت بها مرة أخرى فى أعماق نيلها ومرة أخرى بين أنياب ذئابها ..
أغمضت عينيها التى فشلت فى فتحهما وهى تتحسس تلك الضمادة التى تحيط برأسها وتشعر ببعض الدوار يلفها وفجأة إنفرجا جفنيها بشدة وفتحت عينيها المجهدة وهى تشهق بلوعة ورعب  وإنتفضت جالسة عندما طرقت ذكرى السويعات القليلة الماضية ذاكرتها بجنون ..
صور متقطعة لثوانى رهيبة مرت بها داخل السيارة بين يدي خاطفيها .. سيارة تقاوم الرمال محاولة السير بأقصى ما تستطيع .. صرخاتها المكتومة فى راحة يد الجالس بجوارها ..
دموع منهمرة .. مقاومة فاشلة .. توقفت السيارة وفُتحت أبوابها وفُتح معها الجحيم ..
جسدها يُسحل خارج السيارة ويُلقى به إلى الرمال .. لا تعلم كيف توازنت .. لم تسقط وبدأت بالركض .. لحقا بها سريعا ً .. كبلها أحدهم للآخر ..
مصابيح سيارة قوية قادمة .. طلقات نارية .. دُفعت بقوة .. سقطت .. ثم إرتطام رأسها بأحد الصخور ..
تداخلت الأصوات ثم صمت كل شئ من حولها
.. سكون .. رؤية مشوشة لأحدهم قادم ويقترب منها ينزل على ركبتيه وينظر إليها عن قرب متفقدا ً حالها عاقدا ً جبينه قلقا ً ... ثم دهشة ...  
تحركت شفتيه بكلمات لم تسمعها .. ثم غيبوبة أخرى غاصت فيها حتى الأعماق ..
- إوعى تعملى زى الأفلام وتقولى إنك فقدتى الذاكرة
إلتفتت إلى محدثها وهى تضيق عينيها ناظرة إليه محاولة تبين ملامحه أكثر وأكثر حتى إتضحت تماما ً أمامها ..
فركت عينيها ثم حدقت في وجهه الباسم بدهشة بالغة عاينته سريعا ً بنظرات مضطربة ..
يا إلهى إنه هو .. ملامحه الجذابة  .. عضلاته المفتولة البارزة .. بنيانه القوى ..
هو نفسه ... مُنقذ المياة هو نفسه مُنقذ الصحراء ولكن كيف ؟!! ..
لقد كانت تعتقد أن ما رأته فى المياة وهي تغرق مجرد وهم ..
فكيف يصبح الوهم حقيقة ويعود من جديد لينتشلها مرة أخرى ..
هل يتجسد الوهم إلى هذا الحد حتى نظنه حقيقة ؟!! 
ولكنه يجلس أمامها ويبتسم ويتحدث وتسمعه بأذنيها فكيف ذلك؟! ..
- إنتى يا شاطرة .. هتفضلى تبحلقى فيا كده كتير
جاهدت لُتخرج صوتها بصعوبة وكأنه عالق داخل حلقها وقالت بإرتياب:
- هو أنت بجد؟
نهض واقفا ً بحركة مسرحية وهو يلوح بذراعيه صائحا ً بسخرية :
- أنا قلت بالكتير هتعملى فيها فاقدة الذاكرة لكن ماكنتش عامل فى حسابى أنك هتطلعى هبلة
فُتح الباب ودلف الطبيب بمعطفه الأبيض وإقترب من سريرها بخطوات رصينة وهو يقول مبتسما ً :
- حمدلله على السلامة يا آنسة
وقبل أن تُجيبه أردف مطمئنا ً :
- متقلقيش الحمد لله كابتن " حسام " أنقذك فى الوقت المناسب
نظرت إليه فوجدته يعقد ذراعيه فوق صدره ويزم شفتيه ثم يقول بغرور زائف :
- لالا مفيش داعى تشكرينى ده واجب عليا
رفعت حاجبيها ببلاهة ثم عادت إلى الطبيب بناظريها الذى تابع حديثه بإهتمام :
- إحنا أخدنا رقم والدك من تليفونك وإتصلنا بيه  إرتاحى لحد ما يوصل
ثم إلتفت إلى "حسام" وأشار إليه بسبابته محذرا ً :
- أنا هامر على كام حالة وأرجعلك تانى .. مش عاوز إزعاج للآنسة
أومأ "حسام" برأسه معاتبا ً :
- رغم إنك ظالمنى بس حاضر يا "على" مش هعمل إزعاج
يبدو أنهما صديقان ويبدو أنه مشاغب من الدرجة الأولى .. بمجرد أن خرج الطبيب من الغرفة جلس على طرف الفراش فى مواجهتها قائلا بشك وبنظرات ثاقبة :
- إيه اللى خلاكى تركبى معاهم العربية
نظرت إليه بغضب ..هل يُلمح لشىء ما ؟ ..
لا لقد تجاوز كثيراً لن أسمح له بالحديث معى بتلك الطريقة ..عقدت جبينها وإنفرجت شفتاها ثم وجدت نفسها تقول بخفوت :
- أنا كنت عاوزه أروح المحطة علشان أرجع إسكندرية وماكنتش لاقيه مواصلات خالص
إستند بظهره إلى الخلف وهو يقول معقبا ً:
- كان معايا حق لما قلت عليكى هبلة
حدقت به مرة أخرى غير مصدقة الطريقة التى يتحدث بها إليها دون سابق معرفة ..
لم يبالى بنظراتها المحرقة واستطرد متسائلا ً :
- وإيه بقى اللى جابك القاهرة لوحدك كدة
إنتفضت بغضب وهى تصيح :
- وإنت مالك إنت ... تعرفنى منين علشان تقعد تحقق معايا كدة
شعرت بصداع عنيف يهاجمها على أثر صياحها فرفعت ذراعيها لتمسك برأسها بقوة ولكن الألم قد إزداد حدة وسمعته يقول ببرود :
- طب أنا هاسيبك ترتاحى
نهض وإستدار ليخرج وعندما إقترب من الباب إستوقفته وهى تقول بخفوت متألمة :
- هو أنت أنقذتنى إزاى ؟
إستدار إليها بإبتسامة غامضة زادته جاذبية وهو يقول :
- صدفة ..!
ثم أردف وهو يفتح الباب بهدوء ويمرر أصابعه فوق خصلات شعره المتمردة :
- أنا مش هامشى أنا بره لحد ما والدك ييجي
إختفى خلف الباب المغلق بهدوء فأغمضت عينيها بقوة وهى تستلقى ببطء وتزفر بقوة متمتمة بدهشة :
- مستحيل ..!
ماذا يحدث أنه حقيقى ليس وهماً ولكن مهلاً هذا ليس وقته الآن فهى تنتظر عاصفة الغضب التى ستأتى محملة بكل ماهو خانق بصحبة والدها .. كيف ستبرر أفعالها الغير مسؤلة أمامه والتى كادت تودى بها إلى الهلاك ..خفق قلبها بشدة قلقاً وهى تستمع إلى دقات ساعة الحائط المعلقه أمامها وكأن كل دقة فيها تنذرها بقدومه وبقرب العقاب .. وأخيراً استسلمت للنوم العميق بعد فشلها فى ابقاء عينيها مفتوحتان فهى فى مكان غريب عليها لا تعرف فيه أحداً سوى شخص واحد لازالت حتى هذه اللحظه تشك فى وجوده من الاساس .
أرتكن بظهره إلى الحائط وأستند برأسه إليها وهو يضغط جبينه بقوة من فرط الأرهاق والأجهاد الذى يشعر بهما وهو يجيب صديقه الطبيب بحسم:
- يا "على" مش هامشى غير لما أبوها يجى ريح نفسك
رفع "على" حاجبيه وارتسمت على شفتيه إبتسامة ماكرة معقبا ً:
- يبقى زى ما أنا توقعت ... دى واحدة بقى من حريمك ولا إيه يا دنجوان
إلتفت إليه بضجر قائلا :
- بلاش كلام فاضى هو البعيد مابيعرفش يميز كمان
حك "على" ذقنه بحيرة وهو يقول :
- أمال إيه بس .. تعرفها طيب ؟
لم يستطع أن يمنع تلك الإبتسامة الجذلة التى إرتسمت رغما ً عنه فوق شفتيه وهو يتمتم :
- مش بالظبط
زفر "على" بقوة وهو يستعد للمغادرة :
- بقولك إيه الحكاية مش ناقصة فوازير أنا النبطشية بتاعتى خلصت والنهار طلع هاتيجى معايا ولا هاتفضل هنا ؟
ألقى "حسام" نظره خلف كتفي"على" وهو يشير بعينيه إلى أحدهم خلفه  
ويقول بهدوء :
- تقريبا ً اللى جاى ده أبوها
لم يكن من الصعب تميز رجل غاضب آتى من بعيد يتلفت حوله وينظر إلى أرقام الغرف على الجانبين فوضع يده على كتف صديقه قائلا ً :
- اسمع يا "على" زى ما قلنا تحت فى الإستعلامات البنت جات هنا نتيجة حادثة سرقة ماشى ..
إلتفت إليه متعجبا ً وكاد أن يصيح إلا أن "حسام" أشار إليه أن يخفض صوته فقال :
- آه بس ده أبوها يا "حسام"
نظر له بحزم وقد دنى منهما الرجل الغاضب ووقف وهو يوجه كلامه للطبيب متسائلا ً بإنفعال :
- أنا والد "حبيبة سليم" حضرتك دكتور "على " اللى كلمتنى مش كده
إزدرد على ريقه وهو يوزع نظراته بينه وبين والدها وحاول أن يبدو واثقا ً من حديثه وهو يقول :
- أيوا يا فندم أنا
أومأ والدها برأسه بحركات عصبية وهو يعقد حاجبيه قائلا :
- ممكن أعرف إيه اللى حصلها بالظبط
عدل من وضع نظارته الطبية كمحاولة لبث الثقة فى نفسه وهو يقول :
- الآنسة إتعرضت لحادثة سرقة وكابتن "حسام" أنقذها وجابها هنا المستشفى
إلتفت والدها إلى "حسام" الذى مد يده على الفور مصافحا ً ومعرفا ً بنفسه :
- "حسام الصياد" مُدرب لياقة بدنية
تفحصه والدها لثوانى وهو يصافحه ثم قال بضيق :
- عملت محضر ولا حاجة يا أستاذ " حسام "
إرتفع حاجبيهما بدهشة بالغة  فلقد توقعا أن يسأل عن تفاصيل الحادث وماذا حدث لإبنته وماهى حالتها الصحية الآن ..
يبدو أنه قرأ ما يجول بخاطرهما فى نظراتهما المتعجبة فتنحنح وقال متحرجا ً :
- أنا أصلى رجل أعمال وسمعتى هى رأس مالى والصحافة ما هاتصدق علشان تكبر الموضوع
نظرا إلى بعضهما البعض فى صمت فتابع على الفور موجها ً حديثه للطبيب :
- ينفع أخدها دلوقتى يا دكتور
وقبل أن يجيب إندفع "حسام" مقاطعا ً :
- الدكتور كان بيقول إنها المفروض تعمل أشعة النهاردة علشان نطمن
نظر له "على" بنظرات ثاقبة و بضجر واضح
تركهما ودلف سريعا ً إلى الداخل .. تكلم "على" بغضب ولكن بصوت خفيض قائلا :
- أنت بتستهبل يا "حسام" هتتدخل فى شغلى كمان
زفر"حسام" بقوة وهو يعود إلى حالته الأولى مستندا ً إلى حائطه مغمض العينين يجيش صدره بالكثير من المشاعر والتساؤلات الحائرة ولكنه لم يستطع أن يتجاهل تلك المعركة التى كانت تدور فى الداخل ولكن من طرف واحد !..
إقتربت قبضته الكبيرة من مقبض الباب يحاول أن يمنع نفسه من الدخول ولكن صوت بكائها كان قويا ً يجذبه إليها كأنه يطلب منه الحماية ويدعوه للدخول بشدة
بكت بقوة وهى تجلس فوق فراشها وتضع كفيها فوق وجهها بؤسا ً وألما ً .. تُخفى عينيها المنكسرة وهى تستمع إلى إهانات والدها المتتالية كرماح تخترق صدرها وقلبها وتكوى فؤادها كيا ً شديدا ً ..
- جايه تجرى وراه بعد ما سابك وفسخ الخطوبة ورماكى إنتى إيه ماعندكيش دم ماعندكيش إحساس .. عارفة لو كانت الحادثة دى وصلت للصحافة كان هايحصل إيه ..
عاوزه تفضحينا يا "حبيبة"
ودت لو صرخت لتخرج ما يعتمل فى صدرها ..
لم تأتى لتسترجعه وإنما لتواجهه وتتأكد من الخبر بنفسها وتعرف لماذا لم يواجهها وينفصلا بإحترام ورُقى ..
نعم أخطأت ولكنها عوقبت وبشدة .. يكفى لحظات الرعب التى مرت بها فى الصحراء بين يدي خاطفيها ..
تحتاج إلى الإحتضان إلى الشعور بالأمان بين ذراعى والدها ...
ولكنها لم تتلقى سوى كلمات مميتة تخنقها وتجرحها وتنزع عنها كرامتها وآدميتها لتبقيها فى العراء تُسحق عظامها بداخل رحى الحياة بلا مأوى حقيقى تلتجأ إليه وتحتمى فيه ..
جذبها من كتفيها وهو يمسكها بقوة وإنفعال :
- هانرجع إسكندرية دلوقتى ومن هنا ورايح مفيش خروج من البيت إلا لما تعرفى تحافظى على إسم عيلتك ..
إحنا مش ناقصين بلاوى كفاية الخسارة اللى نازلة ترف على دماغنا
شعر بمن يضع يديه على كتفيه من الخلف مهدئا ً :
- إهدى شوية يا فندم الدكتور بيقول الإنفعال خطر عليها دلوقتى
تركها وإلتفت إلى "حسام" الذى كان يقف خلفه ويقف "على" بجواره كتلميذ مطيع تلقى تعليمات فورية من أستاذه وحان وقت إلقائها فقال :
- كدة خطر عليها يا فندم إحنا لسه ماطمناش على المخ  وبعدين المستشفى هنا تفهمت الأمر ووافقوا إن مفيش محاضر تتعمل علشان حالتها كويسة لكن لو حصل مضاعفات ممكن يغيروا رأيهم .
زفر والدها بقوة وهو يبتعد عنها ثم أخرج هاتفه وتحدث إلى والدتها للحظات بإنفعال وهو يقص عليها ما حدث ثم مد يده إليها بالهاتف دون أن ينظر إليها ..
وضعت الهاتف على أذنها بإرتجاف تساءلت والدتها عن حالتها الصحية بإقتضاب ثم أردفت بجمود وهى تنهى المحادثة :
- لينا كلام تانى لما ترجعى
تنحى والدها جانبا ً بعد أن تناول الهاتف ليستكمل حديثه إلى والدتها مرة أخرى وتركها بجانب فراشها ترتجف كالعصفور المبلل بماء المطر .. إقترب "حسام" منها وقال بخفوت :
- والدك عارف إنها حادثة سرقة
إلتفتت إليه بعيناها المغطاة بالدمع وهى تبتلع ريقها بصعوبة ..
كانت تود أن تشكره لأول مرة منذ أن عادت إلى وعيها ولكنه قطع عليها الطريق وتابع بخفوت وهو ينظر إليها بإشفاق :
- ماتخافيش كل حاجة هتبقى كويسة .. خاليكى أقوى من كدة
أطرقت برأسها أرضا ً وهى تبحث عن كلمات تشكره بها ولكن حروفها تعثرت كعادتها وخذلتها فأطبقت شفتيها بقوة وتركت لدمعها العنان لعله يجيبه بدلا ً عنها
***
عادت إلى الإسكندرية مخذولة تكفكف دمعها وهى تستمع إلى سيل الكلمات الحارقة التى تسيل من فم والدها بلا توقف حتى أنقذها هاتفه من شذره المتطاير وإنشغل بمحدثه طويلا ًً وتركها تستند إلى ظهر مقعدها فى السيارة بجواره وتلتفت إلى الطريق وكثبان رماله المتلاحقة ..
أغلقت عينيها حزنا ً .. ووجدت إبتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها بالقوة وتغزوها شغفا ً عندما تذكرت آخر عبارة تمتم بها بهدوء بالقرب منها قبل أن ترحل بصحبة والدها
"معلش بقى تليفونى كان ضايع فاضطريت أرن عليه من موبايلك لو لقيتى رقم غريب فى سجل المكالمات عندك إعرفى إنه رقمى " ..
يبدو أن صديقه الطبيب كان محقا ً إنه مزعج بل ومشاغب بالفعل ولكن خلفه سر كبير ولكن ليس لديها حاجه ملحةً فى معرفته الآن فليبق السر سرا ً ولكنها كانت مخطئة قد يبقى سرا ً ولكن ليس كثيرا ً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق