الجمعة، 2 مايو 2014

روايــة حكايــــة حبيبـــة .. الفصل السابع

روايـــــة حكايــــة حبيبـــــة

الفصل السابع


لم يستطع الذهاب إلى المنزل فى تلك الليلة كانت بداخله طاقة قصوى تدعوه لتحطيم كل ما يقابله توجه على الفور إلى صالة الألعاب الرياضية .. صعد قفزًا ونزع ملابسه بعنف ثم جلس إلى إحدى أجهزة رفع الأثقال وأخذ يتدرب بشراسة كبيرة وعينين جامدتين حتى نفدت قواه تماما ً وترك جسده يهوى إلى الأرض منهكا ً بشدة ... أغمض عينيه وهو يلهث وصدره يعلو ويهبط بجنون حتى استقر أخيرا ً وهدأ وراح فى سُبات عميق .  
أما هناك أسفل منزلها أوقف "خالد" سيارته واعتدل ليصبح فى مواجهتها ثم قال معاتبا ً:
- على فكره أنا زعلان منك من ساعة ما الفرح خلص وخرجنا سوا لحد دلوقتى ماتكلمتيش خالص
قالت بارتباك :
- معلش أصل أنا محتاجة وقت علشان أتعود عليك أكتر وأعرف أتكلم معاك
سحب كفها وقربها من شفتيه وقبلها برقة وهو يراقب ملامح وجهها المضطرب قائلا ً:
- أنا هخليكى تاخدى عليا أسرع مما تتخيلى
بيدها الأخرى أمسكت مقبض الباب وفتحته وهى تسحب يدها الساكنة فى راحته قائلة باضطراب:
- طيب أنا هاطلع بقى أصلى مرهقة أوى وعاوزة أنام
وقبل أن يعترض أو يتقدم أكثر كانت قد ترجلت من السيارة فلحق بها وسار بجوارها حتى عبرا حديقة المنزل الصغيرة ودلفا من البوابة الداخلية فتقدمت هى وضغطت أزرار المصعد بتوتر شديد متحاشية النظر إليه حتى استقر المصعد أمامهما وقبل أن تستقله أحاط خصرها بذراعه فى محاولةً أخيرة لتوديعها ولكنها أبعدته برفق معتذرة وهربت داخل المصعد على الفور واضعة كلتا يديها على صدرها فى محاولة ضعيفة لتهدئة أنفاسها المتلاحقة
بمجرد أن دلفت إلى المنزل واجهت ابتسامة " أمل " العريضة والتى تقول بحماس وفرحة حقيقية:
- ألف مبروك يا آنسة "حبيبة"
ربتت "حبيبة" على كتفها بابتسامة مرهقة قائلة:
- الله يبارك فيكى يا "أمل"
ثم تلفتت بعينيها فى المكان متسائلةً:
- بابا وماما ناموا ولا أيه
أومأت "أمل" برأسها وهى تقول:
- أيوا " فريدة " هانم و"سليم" بيه ناموا والآنسة "سلمى" بتذاكر فى أوضتها
ابتسمت بوهن وهى تتركها متجهة إلى غرفتها ..أغلقتها خلفها وألقت بجسدها بإنهاك شديد فوق فراشها .. أغمضت عينيها بعد محاولة فاشلة للنهوض مرة أخرى لاستبدال ملابسها . وشعرت برعشة خفيفة تسرى فى أوصالها عندما تذكرت محاولة "خالد" تقبيلها فى الأسفل وتذكرت عينيه الغاضبتين عندما دفعته برفق ثم زفرت بقوة لعلها تُطفىء تلك الشعلة المتقدة بصدرها الساخطة على كل شىء والتى تلهب حيرتها عقلها وتلسع بألسنتها قلبها   ..
" لماذا رضخت لعائلتى ووافقتُ على عقد قرانى بهذه السرعة لماذا أنا دائما طوع الجميع يتلاعبون بى كيف شاؤوا .. يضعوننى حيث أرادوا .. لماذا لم أرفض من البداية ... إلى متى سأظل مترددة وجبانة لا أكادُ أحسمُ أمرًا  لا أعرفُ للمواجهة طريق .. لم أشعر مع "خالد" بأية توافق ومع ذلك خضعت لرأيهم ووافقت على عقد القران ومازلت لا أشعر تجاهه بشىء يُذكر فكيف سأحث السير معه فى طريق حياتنا القادمة " .
*************
أمسك بمقبض باب غرفته وقبل أن يديره سمعها تناديه بغضب يعرف نبرته جيدا ً فى صوتها فاستدار ببطء وهو يحمل سترته بإهمال خلف كتفه وبوجه عابس أجاب :
- صباح الخير يا ماما
قالت وهى تفرك كفيها بضيق:
- يابرودك يا أخى بقى أنا طول الليل عماله أتصل بيك وإنت ولا هنا لما حرقتلى أعصابى وجاى تقولى صباح الخير يا ماما
أغمض عينيه وهو يزفر بقوة ويشيح بوجهه محاولا ً إيقاف بعض الغليان الذى يسرى بداخله والسيطرة على أعصابه وهو يقول منفعلا ً:
- هو أنا عيل صغير هاتقلقى عليه
نظرت إليه بدهشة غير مستوعبة الطريقة التى يحدثها بها لأول مرة واقتربت منه ودفعته فى ذراعه بقوة لا تتناسب مع رقتها هاتفة فى وجهه:
- اتكلم كويس يا ولد مش كفاية اختفيت من  فرح "خالد" ومشيت وسبتنا من غير ما تقولنا رايح فين .. مابقاش عندك أى إحساس بالمسؤلية خالص للدرجادى يا "حسام" 
دفع باب غرفته بعنف ودلف للداخل وهو يصيح :
- هو فى ايه بالظبط .. كل حاجه "خالد" معندكيش غير "خالد" .. لازم الكون كله يلف حواليه ويلبيله طلباته يا مدام " نور"
عقدت حاجبيها وهى تحدق فيه مشدوهة مما ترى وتسمع .. إنه ليس فى حالته الطبيعية أبدا ً .. ربما يكون مخمورا ً أو مخدرا ً .. استدارت فجأة عندما سمعت وقع أقدام قريبة ثم أطل وجه "خالد" الناعس عليهما ويقول وهو يفرك إحدى عينيه من أثر النوم :
- أنا سامع حد بيجيب سيرتى .. بتتخانقوا ليه عالصبح
لم يجد ردا ً من كلاهما فتقدم بضع خطوات للداخل ثم وجه سبابته باتجاه "حسام" وهو يقول معاتبا :
- كده برضه تسيبنى وتمشى يوم فرحى قصرت رقبتى يا أخى قدام مراتى
لم يعلم "خالد" أنه فى كل كلمة ينطقها يضغط بقسوة على جرح مازال مفتوحا بل ومازال ينزف لذلك انتفض متفاجئا ً عندما وجده يصرخ وهو يضرب سترته بشراسة فوق حافة فراشه قائلا ً :
- أنا مش الكلب بتاعك علشان تفضل رابطنى بسلسلة جانبك ولا أنت افتكرتنى الجارد بتاعك بصحيح
أنهى عبارته وهو يستدير ويوجه حديثه لـوالدته قائلا :
- لو سمحتى يا ماما أنا جاى تعبان وعاوز أنام
تبادلت نظرات الدهشة والحيرة مع " خالد" الذى صمت تماما فهو يعلم صديقه عندما يغضب ولابد من أنه الآن غاضب وبشدة .. أشار إليها برأسه وهو يضع راحته على كتفها يحثها على الخروج معه قائلا ً :
- تعالى يا عمتو دلوقتى من فضلك سيبيه يرتاح شويه
أغلق " خالد" الباب خلفهما وسار بها حتى غرفة المعيشة .. أجلسها وهو يتفحص وجهها محاولا ً الإطمئنان عليها ثم جلس بقربها متسائلا ً:
- إيه الحكاية يا عمتو
التفتت إليه غير مصدقة ما حدث وهى تقول بعينين حائرتين :
- والله يابنى منا عارفة ماله أول مرة يكلمنى كده ..
ثم فكرت قليلا وقبل أن تتكلم تراجعت عن ما يدور بخاطرها وهى تقول بتردد:
- لا مش معقول !! ..
نظر إليها مستفهما ً فقالت متسائلة:
- تفتكر يكون سهر ليلة امبارح مع حد بيشرب مثلا ًولا بياخد مخدرات وعرضوا عليه يشرب معاهم ؟
هز "خالد" رأسه نافيا ً بقوة وهو يجيبها دون تردد:
- لالا طبعا يا عمتو "حسام " راجل رياضى وبيحافظ على نفسه جدا
ثم اندفع فى الحديث دون شعور:
- إذا كان أنا صاحبه وابن خاله ومابيرضاش ياخد منـ ..
بتر عبارته عندما انتبه إلى عينيها المتسعتان عن آخرهما بذهول فقال موضحا ً على الفور:
- لا يا عمتو متفهمنيش غلط أنا أقصد يعنى السجاير العاديه مبيرضاش ياخدها منى
زفرت بقوة لتخرج كمية الإنفعالات الكثيرة بداخل صدرها ثم تمتمت :
- ربنا يهديه
تنفس الصعداء وابتلع ريقة بصعوبة فلقد كاد أن يُهلك نفسه بنفسهِ فأراد أن يدير دفة الحوار باتجاه آخر فقال :
- بقولك إيه يا عمتو إيه رأيك أعزم "حبيبة" تتغدى معانا هنا يوم الجمعة ؟
ضحكت ساخرة وقالت :
- قصدك على الفطار
قطب حاجبيه بدون فهم فتابعت :
- يوم الجمعه رمضان يا "خالد" 
رفع حاجبيه مندهشا ً وهو يعبث بشعره قائلا ً :
- والله .. بسرعة كده ؟ .. ولا حد قالى  ! !
************
لم يستطع أن يهرب إلى النوم فكلما هرب إليه فر منه إلى غير رجعة .. ظل مستيقظا ً يتقلب في فراشة أكثر من ثلاث ساعات تأكل الغيرة قلبه تارة وتُعطى ما تبقى منها للندم ليلوكه بتلذذ بين أسنانه الحادة وفى النهاية حسم أمره وخرج من غرفته يبحث عن والدته ..
كعادتها فى تلك الساعة وجدها تجلس فى الشرفة الكبيرة بجوار حوض الزهور .. ذلك الحوض البني المُعطر بزهوره ... رفيقها كلما حزنت أو طالت حيرتها فى أمر ما وكأنها تستجلب روح صاحبه الذى أتى به هدية لها منذ سنوات قليلة قبل أن يفارق الحياة بأيام عدة وطلب منها الجلوس بقربه دائما لتتذكره كلما احتاجت إليه ..
مازال يسمع صوت والده يرن بأذنه بل بعقله وهو يقول لها مبتسما ً بحب " كل ما تحسى إنك محتاجانى تعالى اقعدى هنا " .. لمعت عيناه عندما تذكر والده الذى طالما أحبه كثيرا ً .. لقد كان يتمنى أن يكون هو وزوجته مثل أبيه وأمه متحابان إلى تلك الدرجة من القرب والحممية وكثيرا ً ما كان يُعرب عن أحلامه تلك أمامهما ولكن بطريقة مشاكسة مما يجعل والدته تنهض وهى تقول متأففة " الله يكون فى عونها " فيضحك والده ثم يضع راحته على قلبه ويقول مداعبا ً " بالعكس .. إبنك ده يوم ما يحب هيتبهدل على الآخر ميغركيش عضلاته ده من بره بس " .. ابتسم عندما وصل لتلك المحطة من الذكريات الرائعة فأوقف قطارها عند هذا الحد وتقدم ببطء لينتشلها هى الآخرى من ذكرياتها .. جلس على الأرض أسفل قدمها مباشرة وتناول كفيها بين راحتيه وقبلهما معتذرا ً وهو يقول :
- أنا آسف يا ماما أرجوكى إعذرينى أنا ماكنتش فى حالتى الطبيعية
خفضت رأسها  إليه بصمت وقرأت الندم وقد نقش حروفه بين جنبات ملامحه ثم تنفست بعمق وقالت بهدوء:
- أسفك مقبول يا "حسام" عارف ليه ؟ .. لأنى عارفة إن فى حاجة كبيرة مخرجاك عن وعيك ومش هاضغط عليك تقولى إيه هى .. لكن عارف لو طريقتك دى اتكررت معايا تانى هاعمل فيك إيه ؟
أخفض ناظريه وقال على الفور:
- اعملى فيا اللى إنتى عاوزاه .. أقولك .. إضربينى بالشوز !
رغما ً عنها ضحكت لمداعبته وهى تقول :
- بالشوز ؟
مط شفتيه واصطنع الحيرة وهو يقول مقلدا ً صوت أبيه مداعبا ً:
- منا خوفت أقولك بالجزمة تزعلى يا " نـون " وتقوليلى إيه الألفاظ دى
علت ضحكاتها الرقيقة أكثر وهى تلتفت برأسها إلى إحدى الزهرات فتستنشقها بقوة وتقول مبتسمة بحب:
- لو معملتش كده وانت بتصالحنى متبقاش ابن "مصطفى الصياد "
ابتسم برضا كبير وسعادة أكبر فلقد جعلها تضحك أخيرا ً بعد أن كان سببا ً فى غضبها وقبل كفيها مرة أخرى وهو يقول :
- يعنى خلاص راضى عنى يا جميل
أمسكته من كتفيه وأجلسته على المقعد المقابل لها وهى تقول بتهمل:
- بشرط
أومأ برأسه مبتسما ً وقال بحماس:
 - إنت تؤمر يا قمر
قالت على الفور:
- إنت قولتلى امبارح إنك موافق تخطب " هدى "
 رفع حاجبيه مستفهما ً فقالت بانفعال:
- البنت اللى شاورتلك عليها فى الفرح يا "حسام" .. لحقت تنسى ؟! .. ده أنا الصبح كلمت مامتها وحددت معاها معاد بكرة على أساس أنك ادتنى كلمة امبارح .. ولاعاوز تصغرنى مع الناس ؟
مرر أصابعه بين شعره الغزير باضطراب وهو يقول بخفوت:
- آه افتكرت
لم يكن أمامه مفر من الموافقة فلقد وضعته بين المطرقة والسندان .. وليس هذا فحسب فربما أراد أن يجمع شتات نفسه ويكبح جماح قلبه ويجبره على نسيانها على طريقة وداونى بالتى كانت هى الداءُ .
************

" بهايم .... أنا مشغل عندى شوية بهايم "
نطق "سليم" والد "حبيبة" تلك العبارة وهو يهوى إلى مقعده بداخل شركته الصغيرة ويضرب سطح مكتبه بغيظ شديد مما جعل "راغب" يقول مستفهما ً وهو يجلس على المقعد قبالته :
- فى إيه بس يا باشا .. احكيلى وكل حاجة لها عندى حل
رفع "سليم" رأسه وقد احتقنت عيناه بشدة وقال وهو يلوح بذراعيه منفعلا ً:
- لما "خالد" إتصل بيا وطلب منى معاد وعرفت أنه جاى يطلب إيد "حبيبة" بعت اللى يسأل ويطقس عنه وعن وضعه المالى .. شوية البهايم اللى مشغلهم قدمولى تقرير بيقولوا فيه إنه رجل أعمال وحيد أمه بعد أبوه وأخته ما ماتوا وهو اللى ماسك كل الحسابات والفلوس وهو اللى بيدير الشركه الكبيرة وكل حاجه فى إيدوا يعنى كل الفلوس دى هتروحله بعد ما أمه كمان تموت ده غير فلوسه هو اللى بيشغلها فى السوق
عقد "راغب" حاجبيه بعدم فهم وهو يقول:
- مش فاهم يا باشا اعذرنى
زفر "سليم " وقال حانقا ً:
- البهوات كتبولى تقرير عن واحد تانى يا "راغب" .. عن ابن عمته
مال "راغب" برأسه يمينا ً وهو ينظر إليه غير مصدق وقال متسائلا ً:
- يعنى إيه ؟ .. "خالد" وضعه المالى إيه دلوقتى ؟
عاد "سليم" بظهره يستند إلى ظهر مقعده وأغمض عينيه قائلا ً:
- كان عنده سنتر كبير رأس ماله ضخم ورثه من أبوه وبعد كام سنه صرف معظم فلوسه على الحريم والصرمحة ودلوقتى مابقاش عنده غير شقة ومحل واحد فى المول الكبير اللى قريب مننا
ضرب " راغب" جبهته بقوة وهو يقول بحسرة:
-  يعنى الفلوس بح
أشعل "سليم" لفافة تبغ واستنشق بعض سمومها ثم زفرها ببطء بعد أن ملأ بها رئتيه وقال وهو محدق فى الفراغ :
- مش الفلوس بس يا "راغب" دى أحلامى كمان فى إنى أرجع اسمى فى السوق زى زمان هى اللى بقت بح
***************
ذهب هو ووالدته و"خالد" و بصحبتهم" حبيبة" التى أصرت والدة "حسام" على حضورها للتعارف على "هدى" وأسرتها أو كما كان يظن !.. وجد نفسه يقترح بحماس أن يذهبوا جميعا فى سيارة واحدةً فلا داعى للتفرق فى سيارتين فقد يختلف بهم الطريق ويضيع أحدهم من الآخر وخصوصا ً أنهم سيذهبون إليهم للمرة الأولى .. هكذا أقنع والدته و"خالد" !! ..
لا يعلم لماذا فعل ذلك ! .. ربما أراد أن ينعم باحتلال جسدها جزءا ً من سيارته ويملأ عبقها الأجواء حوله ولو لوقت قصير .. وبالفعل قد كان ما أراد واستقلت سيارته لأول مرة وجلست خلفه مباشرة بابتسامة خلابة .. يبدو أنها هى أيضا سعيدة بذلك ! .. أو هكذا تصور هو ! .. لم يستطع أن يمنع عينيه من النظر إليها فى المرآة من وقت لآخر يخطف بعض الثوانى من عمرها فيحتفظ بها فى درج ذكرياته معها .. لم تستطع هى أن تفسر تلك النظرات المتباينة التى تختلط فيها السعادة بالعتاب .. القسوة والحنان .. الخيانة والإخلاص ..
بمجرد أن أوقف السيارة ترجل على الفور ليفتح لها الباب المجاور لها فى سرعة .. ابتسمت له باضطراب شاكرة ولكن تلك الإبتسامة لم تدم كثيرا ً.. اختفت وخفق قلبها عندما سمعته يهمس لها بضيق:
- الفستان القصير ده ميتلبسش تانى .. فاهمة
ما هذا الكائن العجيب .. من هو ليملى علي أوامره بتلك الجرأة .. وأنا كيف أسمح له بذلك ؟! ..
..ترجلت والدته من السيارة فى خفة تتناسب مع جسدها المعتدل وكذلك "خالد" وهو يعاين المكان حوله متفحصا ً ويحرك رأسه بغرور مصطنع قائلا ً:
- كويس واضح إنهم بيحاولوا يبقوا فى مستوانا ..
تعارف الجميع فى الداخل واجتعمت العائلتان فى البهو الكبير من المنزل وبعد فترة ليست بالقصيرة عالجته والدته بطلب الزواج بشكل رسمى وواضح ولقد كان من الظاهر قبول الاسرة به وترحابهم بشكل كبير رغم نبرة الغرور التى تتحدث بها والدتها دائما ً ورنة القوة والسطوة الظاهرة فى حديث والدها برغم من أنه ترك الخدمة فى صفوف الجيش منذ سنوات ولكنه مازال متشبثا ً بنياشينه وأوسمته وحديثه المتعالى بعض الشىء ..
ولكن الفتاة نفسها هادئة لا تتحدث كثيرا ً ولكنها عندما تتحدث لا تتردد فى قول ما تريد ذات شخصية قوية تتسم ببعض الجدية وربما الصرامة أحيانا ً .. محتشمة فى ملابسها عكس أختها الصغرى "سمر" المتحررة بشكل فج فى طريقتها وثوبها ونظراتها الجريئة وحديثها الناعم معه بشكل خاص ! لاحظت "حبيبة" تلك النظرات والتقط سمعها تلك النعومة فمررتها سريعا ً على الرادار الأنثوى الخاص بها لتخرج النتيجة فى النهاية مغلفة بنظرة استهجان صارمة كانت من نصيب "سمر" طيلة الجلسة والتى بادرتها هى الأخرى بنظرة أكثر حنقا وكأن اللقاء تحول بينهما إلى مباراة خاصة بالأحداق لا يلاحظها سوى عين خبير محترف أو فلنقل .. صـياد ! ..
حاول أثناء عودتهم فى السيارة أن يتملص من ميعاد الخطبة التى كانت تريده والدته ويؤجله إلى ما بعد رمضان ولكن والدته رفضت بشدة ..كاد أن يرفض ثانيةً لولا أن تدخل "خالد" مقترحا ً :
- طب أيه رأيكوا نعمل الخطوبة أول يوم العيد مع عيد ميلاد "حبيبة"
وجدت الإبتسامة الطريق أخيرا ً إلى شفتيه وهو يقول ببطء :
- هى عيد ميلادها أول يوم العيد ؟
أجابته بخفوت :
- ايوا
لا تعلم لماذا عقبت بعد ذلك وقالت :
- السنة اللى فاتت كان آخر يوم فى رمضان وعملنا الحفلة على سفينة فى النيل
حدق بها فى المرآة بشدة وتمتم منفعلا ً :
- إيــه آخر يوم فى رمضان .. وفى النيل ؟!!
تشابكت أفكاره وتصارعت حتى كادت أن تفتك ببعضها البعض لولا مقاطعة "خالد" الضاحكة وهو يقول مداعبا ً :
- يعنى تخيل هى كانت بتحتفل بعيد ميلادها هنا على النيل فى القاهرة وأنت كنت بتغرق هناك فى اسكندرية .
أحتقن وجهها واعتدلت فى جلستها ببطء محاولة ابتلاع ريقها بصعوبة تبادله التحديق والنظرات الذاهلة وهى تهمس مأخوذة :
- إيــه بيغرق ؟!!



*****
ممنوع نشر الرواية أو نسخها  

الأربعاء، 23 أبريل 2014

روايـــة حكايـــة حبيبــة ... الفصل السادس

روايــة حكايـــة حبيبـــة

الفصل السادس

طرقات منغمة على باب غرفته من الخارج جعلته يبتسم وينادى بسأم:
- أدخل يا رخم
فُتح الباب ودلف "خالد" إلى الداخل برأسه فقط مداعبا ً :
- سالخير
تبسم "حسام" ضاحكا ً وهو يعتدل فوق فراشه جالسا ً ويشير إليه بالدخول قائلا ً:
- سالنور يا لذيذ .. تعال
أغلق "خالد" الباب خلفه وصاح مرحا ً وهو يفتح ذراعيه عن آخرهما :
- وأخيرا ً العاشق الولهان هايعترف  
عاد بظهره إلى الوراء وإستلقى بهدوء وأمسك وسادته التى يحب أن يضعها دائما فوق رأسه أثناء نومه وقال محذرا ً:
- لو ماتكلمتش على طول هاسيبك وأنام
اقترب "خالد" وجلس بجواره بطرف الفراش وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة متعجبا ً :
- من إمتى بتخبى عليا يا "حسام"  .. قال وأنا اللى جاى أفرحك
اعتدل مرة أخرى جالسا ً وقال وهو يشير بسبابته متسائلا ً:
- إوعى تقول العروسة وافقت عليك
هندم "خالد" ملابسه بغرور وهو يقول:
- طبعا وافقت هى كانت تقدر ترفض هو أنا شوية فى البلد ولا إيه
ثم ضرب جبينه بحماس مردفا ً:
- أييوه يا جدع
رفع "حسام" حاجبية معقبا ً فى سرعة:
- إيه ده هى العروسة إسكندرانية برضه ؟
التفت إليه "خالد" بجسده كله دفعة واحدة صائحا ً:
- وقعت بلسانك يا وحش معنى كدة إن اللى مطيرة النوم من عينك إسكندرانية صح ؟
شرد بذهنه فى الفراغ المقابل له وتمتم بإبتسامة إحتلت شفتيه عنوة :
- مطيرة النوم بس دى مجننانى
أمسك "خالد" بوجه "حسام" وأداره إليه بحركة سريعة وسعى إلى إستجوابه على الفور قبل أن يتراجع :
- قولى بسرعة عرفتها إزاى وفين وناوى معاها على إيه
أزاح "حسام" يده متأففا ً قائلا ً:
- كل اللى أقدر أقوله دلوقتى إنها سابت إسكندرية وجات هنا القاهرة .. أخدت عنوانها بالعافية من صاحبتها هناك ومش هاقولك حاجة تانية إلا لما أقابلها الأول
ثم استدرج متسائلا:
- ها حددت معاد الخطوبة ولا لسه
زفر "خالد" بقوة وهو يعيد ذراعيه إلى الخلف ويستند إليهما وقد إرتسمت الحيرة على وجهه وعلت قسماته قائلا ً:
- أبوها مصمم على كتب الكتاب مش خطوبة وبس
إلتفت إلى "حسام" عندما إنتهى من عبارته فوجده يحثه فى متابعة الحديث فقال :
- عارف لما اتصلت بيه علشان أحدد معاه معاد أول مرة .. إدانى معاد بعد أسبوع ولما روحت قابلته لقيته عمل عليا تحريات وعرف عنى كل حاجة .. عيلتى مين شغلى إيه كل حاجة عنى وأول ما فاتحته فى موضوع بنته وافق على طول ومن غير تردد لا وكمان بعدها بقى هو اللى بيضغط عليها علشان توافق .. غريب أوى الراجل ده
ثم التفت إليه مرة أخرى:
- أبوها مادى أوى يا "حسام" بس أمك بقى مرتحالها..
بتر عبارته وإعتدل كأنه لُدغ فى التو ونظر إلى الباب فتنهد وعاد برأسه إلى "حسام " متابعا ً بهمس:
- قصدى مامتك مرتحالها جدا ومتحمسة وبتقولى مالكش دعوة بأهلها المهم هى
أنهى عبارته وألقى بجسدة إلى الفراش مسترخيا ً مغمض العينين
اتسعت إبتسامته وهو ينظر إلى حركات "خالد" متفحصا ً .. لن يكبر أبداً سيظل "خالد" هو "خالد" متهور تصرفاته صبيانية مهما مضت به السنين .. لازال يحب عمته كثيرا ً ويخشى إغضابها كثيرا ً أيضا ً ويحاول تنفيذ تعليماتها حتى وإن لم تتوافق مع طبيعة شخصيته من فرط حبه لها وتقديره لها ولتربيتها له منذ أن كان فى السابعة عشر من عمره فى بيتها وبجوار إبنها بعد ذاك الحادث المروع الذى راح ضحيته والديه وأخيه الأصغر وأخت "حسام" الصغرى "حنين" والتى كانت تصغره بعام واحد فقط ..
" حنين" التى اُقتلعت من بستانها ومن بين مثيلاتها من الزهرات المتفتحة اليافعة وفارقت الحياة وفارقته ! .. أخذت معها قلبه وكاد أن يفقد عقله بعد علمه بما حدث للجميع فى تلك السيارة المحطمة على الطريق السريع .. لم تكن إبنة عمته فقط بل كانت حلم الطفولة والصبا ..
 وحجر الأساس الذى إنهار فتهاوت معه حياته وتطلعاته بل وإيمانه أيضا فحاول الإنتحار بعدها ولكنه صُدم عندما علم لأول مرة أن المنتحر لا يدخل الجنة أبدا ً فعدل عن الفكرة وهو يتأمل السماء الصافية ويتخيل "حنين" ترتع بين طبقاتها فرحة سعيدة بثوبها الأبيض كبياض الثلج تنتظره ببستان جنتها
ولم لا وهى من كانت يطلقون عليها ملاك العائلة وهى من خاضت حربا ً قبل الحادث بثلاثة أشهر فقط من أجل رغبتها فى إرتداء الحجاب ونفذت رغبتها بتصميم غريب وأسدلت على جسدها ما يخفيه وواظبت على الصلاة ولم تُرى بعد ذلك إلا ومصحفها بيدها وإبتسامتها الصافية ترسم أجمل نقاء روحى  بعينيها ..
تخيلها تنظر إليه نظرة عتاب طويلة لمحاولته قتل نفسه فيحرمهما اللقاء الأبدى المرتقب .. عدل عن الفكرة نهائيا ً وإحتفظ بحياته ولكنه مع الوقت بدء يفقد الكثير فى المقابل ..!!
لم يشأ "حسام" أن يخرجه من تلك الحالة التى تنتابه على فترات متباعدة فهو يعرف تلك النظرة جيداً إنه الآن سابح مع ذكرياته .. هو الآن يذكر " حنين" .. أخيته الصغرى ملاكه البرىء روحه التى فارقته ولم تعد إلا فى تلك اللحظة الوهمية التى رأى فيها "حبيبة" تحت سطح الماء لأول مرة ..تشبهها كثيرا ً .. ملامحها .. صوتها .. لغتها الجسدية .. وبراءتها وربما سذاجتها أيضا ً .
أجفلا حينما دوت طرقات سريعة على باب الغرفة إنتشلتهما من بحر الذكريات .... من حنينهما .. زفر "خالد" زفرة طويلة بينما أجاب "حسام" بحزن :
- أدخل
أطلت الخادمة بجزء من جسدها وهى تقول بأدب :
- كابتن "حسام" أستاذ "طارق" على التليفون
أومأ برأسه فخرجت فى التو وأغلقت الباب خلفها بهدوء .. إعتدل جالسا ً ورفع سماعة الهاتف الملحق بغرفته .. لم يلتفت " طارق" إلى بحة الحزن بصوت صديقة فتكلم مندفعا ً كعادته قائلا ً:
- إنت فين يا "حسام" دايخ عليك بقالى كام يوم ومحدش عارفلك طريق وحضرتك قافل تليفونك وبتتفسح فى اسكنرية ولا على بالك
أغمض عينيه وزفر بقوة فقد تملك منه الضيق والفتور أكثر وهو يجيبه:
- ما تهدى يا عم إنت فى إيه مالك داخل زى القطر كده ليه
عاد إليه صياح "طارق" حانقا ً:
- لا ولا حاجة ,,, بسيطة خالص كل الحكاية إن إفتتاح الجيم بعد يومين وفيه أجهزة حضرتك لسة ماركبتهاش والناس بيتصلوا يسألوا على تفاصيل أنا مش عارفها والدنيا تضرب تقلب ..
ها كدة كويس ولا أقول كمان .. ده كان يوم منيل يوم ما فكرت أشاركك يا أخى
ابتسم "حسام" رغما ً عنه فهو عادة لا يخرج من إحدى حالات حزنه إلا بمشاكسة ما
وقال بسخرية :
- إنت هاتعمل فيها شريكى ولا إيه ما كانوش 10% دول  وواخدهم عافية كمان بعد ما قعدت تتحايل عليا
زمجر "طارق" مصطنعا ً الغضب وقال:
- إسمع يابنى إنت أنا مستنيك في الجيم حالا تنط فى الهدوم وتبقى عندى فى ظرف دقايق ... أنا محتاس يا "حسام"
وضع السماعة بعد أن أنهى مكالمته وقد وعده أن يكون أمامه بعد دقائق قليلة وبالفعل لم تمر سوى  خمسة دقائق وكان فى السيارة متجها ً إليه وبداخله حروب ومنازعات يجيش بها صدره ..
لقد نسى أمر مشروعه كليا ًمنذ أن سافر للبحث عنها والآن هو فى ورطة حقيقة ..
الإفتتاح بعد يومين و لا يزال أمامه الكثير لإنجازه وبعد الإفتتاح سوف ينشغل أكثر فحتى الآن لا يوجد مدرب معتمد غيره والجميع يريد التدرب تحت يده .. الجدول مزدحم بشدة .. وفى نفس الوقت يريد الذهاب إليها باحثا ً عن مكان إقامتها ويحاول الوصول إليها ليبدأ معها مشروعه الكبير والمصيرى ..
هل من الممكن أن يؤجل اللقاء أياما ً ليست بالكثيرة حتى يهدأ دوران الأرض من حوله قليلا ً فيذهب إليها وهو فى فسحة من وقته خالى الذهن ؟.. فهى أغلى عنده من أن يمنحها بعض عقله وبعض ساعاته .. فماذا سيفعل ؟!
***
وقف أمام "طارق" عاقدا ً ذراعيه فوق صدره بإبتسامة مرحة عالقة بين شفتيه وهو يستمع إلى "طارق" الذى كان متقمصا ً دور المرشد السياحى وهو يشرح كل شىء عن المكان بحماس شديد كتدريب له على حفظ جميع أسماء الأجهزة التى ذكرها له "حسام" سابقا ً وكيف يعمل كل جهاز على حدا و"حسام" مستمتع بدور الضيف الثقيل الذى يسأل عن كل شىء وأى شىء ويؤديه بإتقان فهو خبير فى المشاكسة والمناورة بشكل كبير وبدا "طارق" مسترسلا ً فى الحديث وهو يقول:
- والدور اللى تحت زى ما شوفنا كان للأجهزة والتمرينات أما الدور ده بقى ساونا وتدليك وطبعا الرجالة ليهم أيام ومواعيد محددة غير مواعيد الستات
عض "حسام" شفتة السفلى ساخرا ً متصنعا ً الضيق وهو يقول :
- يا خسارة
ثم لوح بقبضته بضجر فى وجه "طارق" محذرا ً وهو يقول متعجلا ً:
- إخلص ياض بدل ما أشرحك
أمسك "طارق" بقبضته وقبلها وهو يقول بترجى :
- لا أبوس إيدك إبعد القبضة المدمرة دى عنى
أعاد "حسام" ذراعيه فوق صدره كما كانا بينما قال "طارق"  بجدية لا تتناسب مع المزاح الذى سبقها منذ لحظات :
- الدور ده بقى هيبقى للناس الهاى كلاس مش أى حد .. عاوزين بقى نسميه إسم يليق بيه
ابتسم "حسام" ثم تنفس بعمق وقال بعينين حالمتين :
- هايبقى اسمه " رُكن حبيبة "
عقد "طارق" حاجبيه وقال متسائلا ً :
- رُكن حبيبة ؟! .. إشمعنى ؟
أجابة "حسام" وهو يتركه منصرفا ً :
- وأنت مالك يا رخم
***
ثمانية أيام فاصلة تغيرت بعدها الحياة من النقيض إلى النقيض .. فى لحظة ما وكأن الكون قد سكن مرهفا ً آذانه لتلك الضربات القاسية التى أوجعت فؤاده .. وكأن البحر قد تجمد فجأة لتحجر تلكما العينان وكأنه خشى أن يتحرك بأمواجه فيثير غضب تلك العروق النافرة المحتقنة فيتلقى لكمة تُخرس هديره إلى الأبد ..
كان الجميع يتحرك حوله مباركا ً عقد القران وهو مازال مذهولا ً يضغط أضراسه حتى كاد أن يهشمها دون وعى .. يقبض راحته بقوة وغضب حتى هربت الدماء منها خشية أن يمزق أوردتها  تحت جلده .. إنها هى .. "حبيبة" ! .. تجلس إلى جوار"خالد" تعلو شفتيها إبتسامة خفيفة ..
لازالت عينيها تبرقان تكادا أن تمطرا .. تكاد أظافرها أن تتآكل وتنسلخ من فرط عبثها القوى بها توترا ً وحنقا ً .. لا تجد مسلكا ً لريقها بداخل حلقها وهى تنظر إليه .. نظرات مبهمة وربما متساءلة أو ربما حائرة .. إقتربت والدته وجذبته من ذراعه ناهرة إياه برفق وبصوت منخفض:
- إتأخرت كدة ليه يا "حسام" .. المأذون كتب الكتاب من بدرى
نظر إليها وقد تركت عيناه العروس الحائرة معلنا ً لها تركها إلى الأبد وأجاب وهو ينظر إلى الفراغ:
- دايما باجى متأخر يا ماما
جذبته مرة أخرى وسارت به  بإتجاه العروسين  بينما سار هو خلفها كطفل ضاع من عائلته وفقد الطريق فجأة وأظلم كل شىء من حوله فلا يكاد يسمع ولا يكاد يبصر وبالجهد ينطق كلماته .. بينما تمتمت وهى تسير بجواره :
- يالا علشان تسلم على العروسة وتبارك لـ"خالد"
المرة الأولى التى يحتضن فيها "خالد" ببرود .. المرة الأولى التى يشعر فيها أنه يريد أن يهشم وجهه بل ويحرق كل شىء حوله .. كان "خالد" يتحدث بحماس وهو ينظر له وكأنه شخص آخر وكأن "خالد" قد إنقسم إلى نصفين بل إلى رجلين رجل منهما صديق عمره الذى لا يتورع عن أن يفتديه بحياته والآخر رجل بغيض إختطف منه محبوبته لا يستحق سوى القتل ..
عندما بسط كفه لمصافحتها شعر بيدها تحرقه وهى تزحف فى كفه ببطء ووجل .. ضغط كفها بقوة آلمتها وعتاب قتلها وثارت لأجله خواطرها الراكدة
يا إلهى !! كيف أستطيع أن أرى الكلمات مرتسمة بأحداقه بوضوح هكذا .. لماذا يعاتبنى لماذا ينعتنى بالخائنة ؟ بل أنت من ترك وتخلى  .. أنت من يحب أخرى كما قيل لي .. بل لا يوجد بيننا أى شىء على الإطلاق يدعوك لتلك النظرة الغاضبة ..
يدعوك إلى كتابة تلك الكلمات القاتلة في عينيك .. أرجوك إبتعد الآن ولا تفسد عليّ يومي كما أفسدت عليّ أحلامى .  
لم تكن هى الوحيدة التى إستطاعت أن تقرأ ما بعينيه بل فوجىء هو الآخر بأنه يستطيع ذلك .. هى تدعى أنه لا يوجد بينهما ما يستدعى غضبه بل ولا تعرف لماذا أنا غاضب .. بل وتأمرنى بالابتعاد .. تركها وإبتعد سريعا ً كدوامة تسرع بإتجاه سفينة تريد أن تبتلعها .. هدرت أمواجه بعنف وزأرت وحوش غاباته وهو يفك ربطة عنقة بغضب وانفعال خارجا ً من القاعة ولكن نداءا ً واحدا ً فقط لم ولن يستطع يوما ً أن يتجاهله .. أقبلت والدته بإبتسامة عريضة متساءلة بسعادة:
- رايح فين يا "حسام" عاوزاك ف حاجة مهمة أوى
أشاح بوجهه يخفى ما تلبس به من غضب وهو يقول:
- خارج أشم شوية هوا بره
أدارته إلى جهة اليمين وأشارت إشارة خفية إلى إحدى الطاولات الغير بعيدة وهى تقول باهتمام مغلف بالفرحة :
- شايف البنت اللى زى القمر اللى قاعدة هناك دى
لم ينظر ... لقد كان يحاول بذل أقصى ما فى وسعه للسيطرة على إنفعالاته بشتى الطرق ولكن رغما عنه قال بعصبية :
- مالها يا ماما
فهمت والدته عصبيته بشكل آخر وقالت بحزم:
- أسمع بقى يا "حسام" أنا كل ما أجيبلك عروسه تعملى فيها الشويتين دول لكن خلاص بقى كفاية .. "خالد" اللى أصغر منك أهو إتجوز مش فاضل غيرك والمرة دى هاتوافق يعنى هاتوافق
نظر إليها بملامح خاوية وجبين منعقد فتابعت بنفس بحسم:
- البنت ممتازة يا "حسام"  .. أبوها لواء سابق فى الجيش ومربيها تربية جامدة على النظام والجدية يعنى متقلقش مش زى البنات اللى تعرفهم .. والنادى مبتروحوش إلا مع والدتها وزى ما إنت شايف كده لبسها محتشم وشخصيتها قوية والكل بيشكر فيها بصراحة وأنا متأكدة إن أخلاقها هاتعجبك .. ها قلت إيه ؟
عندما تندفع السهام إلى قلوبنا بلا رحمة بأيدى من نحب نفتح لها صدورنا بإبتسامة رضا ولا نحاول أن نتفاداها فالموت هنا لن يكون بسبب النصل .. سيتغلغل السهم فى القلب ليجده قد مات بالفعل قبل أن يصل إليه وفقد قدرته على النبض وسيبصر النصل لوحة رُسمت على الشغاف بدماء الحياة لحروف كلمة .. خيانة ..
نظر إلى والدته نظرة إستغاثة يرجوها بها أن تكف عن الحديث فهو الآن فى لحظة ضياع كاملة ربما يظلم بسببها إنسانة أخرى لا ذنب لها فيما حدث له .. ظلت تتحدث وتضغط وظل يستمع ويضيع أكثر كلما إلتفت إلى "خالد" وعروسه الخائنة بلا خيانة الحائرة بلا سبب حتى كاد أن ينفجر ..
تنهدت والدته بشفقة وقالت بحنان:
- ماتخبيش عليا لو فى واحدة تانية قول أنا مش هامانع
إبتسم بمرارة وحرك رأسه نفيا ً فاستطردت قائلة :
- يبقى تقول موافق وسيب الباقى عليا
وبعد صمت طويل اعتصر قلبه ألما ً وندما ً ...  تطايرت فيه أحلامه من أمامه كأوراق الشجر في مهب الريح نطق بحروف مبعثرة وعينين محتنقتين بالدم المندفع إليهما قائلا ً:
- موافق

الاثنين، 14 أبريل 2014

بــقايــا أمــرأة





جلست تحدق بى تختنق الدموع بعينيها وتصر على عدم الهطول تصر على التحديق ياترى أهى مصدومة إلى تلك الدرجة أم هل فقدت عقلها ..أمسكت بكفها المرتعش بين راحتي وأبتسمت بتفهم أطرقت براسها تنظر إلى يدى وقبضت بقوة عليها .. شهقت بعنف وبدأت الأحداق تمطر بلا توقف وتعلو الشهقات واحدة تلو الأخرى .. ما بكِ يا صديقتى ؟ لم اقولها ولكنها قرأتها فى عينيى أختنق صوتها وأضطرب حلقها تحولت المرارة إلى حاجز كبير يطبق على حروفها يمنعها التنفس قبل الحديث .. ربت على كتفها لاشد من أزرها وسحبت يدى أجفف دمعها ثم عدلت من خصلات شعرها المتناثرة والتى اصرت على الألتصاق بوجنتها هل ترتوى دمعا أم تخفى علامات الشيخوخة التى ظهرت قبل أوانها بكثير .. وأخيرا تنفست وارعدت وارتجت بقوة بين يدى .. لم تحاول أن تسيطر على ارتعاشة جسدها لم تحاول أن تتجمل أمامى فهى تعلم من أنا وأنا اعلم من تكون . قالت بآنات متواصلة وشهقات متقطعة " صديقتى" لقد نفذ عمرى وشبابى وصباى ومالى وأحوالى إلى جوار بئر سحيق ليس له آخر ليس له قاع كلما أعطيت كلما ابتلع بنهم يلتهم أعصابى يوميا يلتهم حياتى يوميا يلتهمنى وأنا الاسيرة فى محرابه لا أعلم لى ملجا غيره ولا بيت غير بيته ولا فراش غير فراشه ظلت هكذا لسنوات كلما رايت نقائصه تماديت فى جهلى كلما أخذ كلما أعطيت مشيت على حافة جحيمه سنوات وسنوات معصوبة العينين وأخيرا ابصرت .. ابصرته ولم تكن تلك المفاجأت لكبرى .. لكن ما قطع أوصالى أنى ألتفت إلى مرآة حياتى لقد تغيرت يا صديقتى لقد تغيرت كثيرا فقدت نضارة فؤادى حُرمت صبا أملى لم أتعرف إلى نفسى .. ما هذا الشىء الذى يسمى أنا .. من تلك المرأة العجوز فى سن الشباب من هذه مستحيل أن تكون أنا .. ماذا فعلت به لصفح أحلامى ويرمى بها إلى قبوه السرمدى قدمت كل شىء وفى النهاية أطعمنى الحسرات تلو الحسرات وزين طبقه المفضل بالحرمان .. الحرمان من كل شىء .. من كل شىء .. لماذا .. لماذا .. وظلت تردد سؤالها اللانهائى مرات ومرات وانا صامتة لا جواب لدى لا علم لى .. أنا أعرفها منذ سنين لقد كانت نضرة متفتحة يكسوها الحماس من كل جانب متطلعة دائما للمستقبل تنتظرة لتعطيه كل الحب وكل القلب وكل الروح .. جمعت مشاعرها له وحده وحفظتها من كل دنش له وحده وجلست تنتظره تحلم وتحلم  وهاهى الان تسقط تسقط بعنف تسقط بقوة أرى حديثا بين شفاها خجلت من قوله أرى قلبها ينبض ببعض الكره بعض الحقد والكثير من الحسرة والندم .. ايعقل أن نكره من أحببنا يوما ؟ !! أيعقل أن نحقد على من منحناهم أعمارنا وكل ما نملك طواعية ؟!! .. وبكل تصميم وحزم قالت بعنف .. لا أريده لم يعد زوجى حتى وإن بقيت فى بيته ارعى أولاده ولكنه لم يعد زوجى ولم يعد قلبى له .. أرتجفت عندما تخللت كلمتها الأخيرة بأذنى "لم يعد قلبى له " ؟ .. صديقتى إذن اصبح قلبك لمن ؟ صديقتى أتعقلين ما تقولى ؟ أبتسمت بمرارة قاتمة بالليل الحالك السواد وهى تنفث جحيم نارها المتأججة بصدرها .. نيرا ن أمرأة مهملة مهد لها زوجها طريقاً للفتن ووضعها على مشارفة وتركها وحدها تخوضه ياترى هل هى خائضة ؟ ارتمت بين ذراعى لملمتها بين أضلعى .. حاولت أن أطفىء بعض لهيبها ببعض كلمات الصبر والسلوان ولكن يبدو ان النيران مشتعلة بقوة وأحرقت ما بداخلها كل شىء جميل .. لقد أحرقت جمال روحها وعِفت لسانها وسكن قلبها حتى أصبحت تنكر نفسها تكاد تخطأها فى المراة !! أنها  أمرأة لم تلقى سوى الأهمال والهجر والصمت القبيح الذى كان صخبه يقتلها ويشق صدرها يحرثه حرثاً شديدا ليبذر فيه بذور الندم على ما كان .. وقفت عند بابى تودعنى شعرت أنها تودعنى حقاً شعرت أنها لن تعد مرة أخرى لقد كانت متهالكة للغاية متعثرة خطواتها .. ستعود إلى بيتها بيتها التى حلمت أن تعيش فيه أمراة .. أمرأة كاملة وبعد كل تلك السنون خرجت منه بقايا أمرأة .. ناديتها فألتفتت تمسح دمعها فوجدتنى اقول .. "صديقتى دموعك تلك تستحقها سجدة بين يدى الله ولا يستحقها رجل أحمق " .

الأحد، 13 أبريل 2014

رواية حكايـــة حبيبــــة .. الفصل الخامس

روايـــة حكايـــة حبيبــــة

الفصل الخامس

وأمام ضراوة صفعات الدنيا المتوالية لا نتألم كثيرا ً من صفعات كفوف المقربين منا , إنما هي فقط تجعلنا نرتد إلى الخلف مبتعدين فى الوقت الذى نتمنى فيه الإقتراب منهم أكثر , نتمنى  لو نرتمى فى أحضانهم , تحتوينا صدورهم وقلوبهم وهمساتهم الداعمة لنا .. لذلك لم تؤلمها الصفعة التى هوت ببعض الضعف مرتطمة بوجنتيها بل ما آلمها أنها لم تجد حضن والدتها  فيه بعض المتسع لها ..
ترقرق الدمع بعينيها وهى ترى خيوط الغضب منسلة من عينين أمها وهى تجذب حقيبتها المعلقة بيدها بقوة وتفتحها لتتناول هاتفها المحمول وتشد عليه قبضتها صائحة بغضب:
- لا دخول ولا خروج ولا حتى تليفونك هيفضل معاكى .. أنا عمرى ما كنت أتصور إن بنتى أنـا .. بنت "فريدة" هانم تروح تجرى ورا صعلوك زى ده .. إتفضلى على أوضتك مش عاوزه أشوف وشك ..
أخفت وجهها خلف راحتها وهى تسرع نحو غرفتها بخطوات تقترب إلى العدو لا تعلم هل تخفى دمعها أم تتأكد أنها قد صُفعت بالفعل ... آوت إلى غرفتها وأسرعت إلى فراشها ..أغمضت عينيها وهى تبلل شفتيها بحرقة وألم .. تشعر بأنها تغلق عينيها على أشواك تنغزها بين جفنيها بلا توقف .. وألم عظامها ينخر بقوة بين مفاصلها طالبة بعض الراحة والسكينة بعد كل ما مرت به .. ولم لا قد يكون النوم بعض سُبل الهرب المريحة لذلك القلب المنهك والجسد المتهالك الذى كاد أن ينتهك هو الآخر .
***
***
كادت أن تصبح فى عزلة تامة لولا أن أسرعت بها الأيام وإقتربت مواعيد إختبارات الجامعة .. حاولت أن تتواصل مع إحدى صديقاتها المقربات عن طريق الهاتف الأرضى وإنغمست قليلا بين دفتى كُتبها خائضة فى مضمار ( الهام و المقرر والملغى ) متناسية ما حدث لها فى تلك المدينة القاهرة لها دائما وما تبعها بعد ذلك فى الإسكندرية فى محاولة مستمية فى أن تطوى ذكرياتها طيا ً غير مزعج لا يترك خلفه آثار واضحة على شخصيتها التى تميل إلى البساطة والتصالح مع الذات ومع من حولها ..
وفى نهاية آخر يوم من أيام الإختبارات وقفت بصحبة صديقتها المقربة وقد إستندت صديقتها إلى سيارتها الحمراء وقالت بسعادة:
- بجد مش مصدقة إننا خلصنا إمتحانات
رفعت "حبيبة" نظارتها الشمسية وهى تلتفت إليها معقبة:
- قصدك خلصنا الكلية خلاص
فرقعت صديقتها بإصبعيها وهى تقول بمرح:
- وبالمناسبة الحلوه دى هافسحك فسحة النهاردة عمرك ما حلمتى بيها

أنهت عبارتها وهى تفتح حقيبتها مستطردة :

- هى فلوس أبوكى دى مش هتخلى عندها دم وتجيبلك عربية يالا إركبى على ما أشوف مين بيتصل

مطت "حبيبة" شفتيها بعدم رضا وهى تلوح بيدها بضجر قائلة :

- قولتلك قبل كده مليون مره مبحبش السواقه ..أعصابى خفيفه وبعدين مالها يعنى التاكسيات

 أشارت إلى "حبيبة" وهى تقول بدهشة:
- إستنى ده رقم مامتك هو إنتى موبايلك مش معاكى برضه ولا إيه
زاغت نظراتها وهى تنظر إلى صديقتها لا تعلم بماذا تجيب ثم قالت بإرتباك :
- مش عارفه بنساه كتير ليه كدة الأيام دى
صمتت وهى تستمع إلى صديقتها تحدث والدتها لثوانى ثم تناولت الهاتف من يدها ووضعته على أذنها بإرتباك قائلة:
- أيوا يا ماما ..
صمتت قليلا ً تستمع إلى حديث والدتها وما بين حاجبيها يضيق أكثر فأكثر وهى تقول بخفوت حائرة:
- فجأة كدة .. طب ليه ؟
لم تجيبها والدتها إجابة شافية فأومات برأسها بدهشة وإضطراب وهى تقول :
- حاضر يا ماما  ربع ساعة وهاكون عندك
أنهت الحديث مع والدتها ومدت يدها بالهاتف إلى صديقتها وهى تنازع الحيرة والدهشة نزاعا ً شديدا ً قائلة ببطء:
- ماما عاوزانى حالا ً يا " ندى"
مطت " ندى" شفتيها قائلة:
- ليه فى حاجة ؟
نظرت لها نظرة طويلة حائرة ثم قالت غير مصدقة:
- فجأة كدة قرروا نسيب إسكندرية !
***
عادت إلى منزلها لتجمع أشيائها لا تعلم ماذا تفعل فبرغم أن تلك الغرفة شاهدة على ذكريات أليمة إلا أنها تعنى الكثير لها ففيها ترعرعت وفيها عايشت أحلامها ومستقبلها ومكتبها الصغير الذى كانت تجلس خلفه تدون الأحداث الغريبة التى تمر بها والمشاعر الغير مفهومة التى تشعر بها أحيانا ً .. كانت تود لو تحمل معها تلك الغرفة الوردية بكل تفاصيلها إلى القاهرة فكل زاوية فيها شاهدة على أيامها ولكن منذ متى وأحداً يستجيب لمتطلباتها أو يشعر بما تحتاجه تذكرت حديثها الواهى مع صديقتها منذ قليل عن السيارة ..أنه نفس المبرر الذى تقوله للجميع عندما يسألونها لماذا لا تمتك واحدة وهى من هى ! بالفعل ليس لديها قوة أعصاب تؤهلها للقيادة ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد ! .. وقفت فى منتصف الغرفة حائرة تنظر إلى الدُمى المتراكمة فوق فراشها .. إنها جميعاً مفضلة لديها لكل دُمية منهم ذكرى جميلة مع أحدى صديقاتها فى مراحل عمرها المختلفة .. حاولت كبح جماح رغبتها فى جمع المزيد منهم  فأوامر والدتها كانت محددة وواضحة والتوتر والعصبية هما السائدان بين أرجاء المنزل  .. ولم تتبين الكثير من الأسباب لهذه النقلة الكبيرة والغير متوقعة على الإطلاق ولكنها علمت أهم تلك الأسباب والذى كان سببا ً رئيسيا ً لما يحدث ..
إنها تلك الأزمة المالية التى عصفت بأركان عمل أبيها عصفا ً شديدا ً كاد أن يهز أركان سمعته كرجل أعمال بارز وبدأت الديون تلاحقه يوما ً بعد الآخر هو وزوج إبنته وشريكه فى كل شىء ..
مما إضطره إلى اللجوء إلى مكان آخر بعيد يستطيع من خلاله أن يتوازن من جديد ويرمم تلك الصدوع كما نصحه الكثير من أصدقاءه فى القاهرة  بل وعرضوا عليه فتح آفاق جديدة له هناك بجوارهم .. ولحسن الحظ أنه كان يمتلك هناك بيتا ً جيدا ً فى مكان راقِ للغاية ..
جمع عائلته بالكامل ورحل إليها تاركا ً مدينته الساحلية بكل ما فيها .. عادت إلى القاهرة للمرة الثالثة وقلبها يرجف .. ياترى ماذا تخبئين لى هذه المرة أيتها الظالمة .. تركت مدينتى وذكرياتى وطفولتى وأحب الأماكن إلى قلبى من أجل أن آتيكِ وأنتِ التى شاهدت فيكِ ما شاهدت وكرهت فيكِ ما كرهت .. إنها نفس الأعمدة المتلاحقة نفس الصحراء وكثبان الرمال الخاوية المميتة إنه نفس الطريق الذى سقيته من قبل بدموعى ذهابا ً وعدتُ منه بنصف قلب ونصف عقل وحلم تجسد أمامى وأصبح حقيقة ! .. فإلى أين تأخذيننى هذه المرة
ربما قد أحبت هذا المنزل الجديد عليها وربما لو كانت ستحبه أكثر لو لم يكن يقبع فى تلك المدينة التى لا تنام .. كانت غرفتها فيه أشبه بغرفتها فى منزلهم القديم فى الإسكندرية إلا أنها كانت أكثر إتساعا ً وأكثر رفاهية .. المنزل مكون من ثلاث طوابق تحيطهم حديقة من ثلاث جهات .. سيُجهز الطابق الأول للشركة الجديدة التى سيعيد من خلالها والدها أمجاده وثروته وسيكون الطابق الثانى لأختها " نشوى" وزوجها "راغب" أما الطابق الثالث فستقطن فيه مع والدتها ووالدها وأختها الصغرى "سلمى" التى حصلت على التقدير التى كانت تتمناه وتحلم به فى المرحلة الثانوية ولم يكن يشغلها كثيرا ً أمر إنتقالهم إلى القاهرة بل كل ما كان يشغلها هو كلية " صيدلة " وفقط فلقد حققت حلمها بالإلتحاق بها ولا يعنيها بعد ذلك أي شىء ..
***
- " الرقم المطلوب ربما يكون مغلقا ً أو غير متاح "
زفر بقوة وهو يطرق بأصابعه بضيق شديد على سطح الطاولة التى يستـند عليها بمرفقيه متمتما ً بحيرة :
- برضه مغلق
شعر بمن وضع يده على كتفه من الخلف ممازحا ً:
- هو مين ده اللى مغلق
إلتفت "حسام" إلى مُحدثه بضجر واضح قائلا ً:
- مالكش دعوه يا عم "خالد"
إقتربت منهما برزانة ووقار وجذبت إحدى المقاعد حول الطاولة جالسة ببطء وهى تقول بإستنكار شديد:
- كل اللى يسألك تقوله مالكش دعوة حتى " خالد " كمان .. لا ده إنت حالتك بقت صعبة أوى يا "حسام"
جلس "خالد" وهو يقول بشغف :
- إيه ده .. ده الموضوع بجد بقى .. يعنى عمتو ليها حق تشتكيلى منك
نظر "حسام" إليه وعقب مستنكرا ً:
- بقى في واحد طول بعرض داخل على التلاتين يقول عمتو
ضحك "خالد" بجـذل بالغ وقال وهو يلوح بيديه:
- إنت فاكرنى شوارعى زيك ولا إيه يا فان دام
زفر للمرة الثانية وهو يضرب راحته بقبضته الأخرى موجها ً حديثه إلى والدته :
- عاجبك كدة يا ماما مالقتيش غير الهايف ده وتشتكينى ليه
أسندت ذقنها إلى قبضتها وهى تنظر إليه متفحصة :
- أعملك إيه حالك مش عاجبنى بقالك كام يوم  .. وبعدين ده إبن خالك الله يرحمه وصاحبك هو أنا إشتكيتك لحد غريب
تناول"خالد" الهاتف من أمام"حسام" وأخذ يبحث فيه بفضول وهو يقول :
- ولا إشتكيتك ليا ولا حاجة يا وحش .. عمتو بس شايفاك بالك مشغول وعاوزه تطمن عليك مش أكتر
جذب "حسام" الهاتف وتناول سلسلة مفاتيحه ونهض وهو يلقى عبارته الأخيرة قبل أن يغادر:
- ولا بالى مشغول ولا حاجة إطمنوا مافيش حاجة .. أنا رايح الجيم
إستوقفه "خالد" قائلا ً بضيق :
- كمان ناسى معادنا النهاردة 
عقد "حسام" بين حاجبيه محاولا ً التذكر وقال متسائلا ً :
- معاد إيه ؟
زفر "خالد" وقال حانقا ً:
- هو أنا مش قولتلك يابنى إنت .. إنى معجب بواحدة وحددت ميعاد مع أهلها علشان أتقدملها
إبتسم "حسام" ساخرا ً وقال:
- وأنا هافتكر مين ولا مين ما أنت كل يوم تطلعلنا فى الموال ده مع كل واحدة شوية وفى الآخر بتفركش
تدخلت والدته فى الحديث قائلة بثقة:
- لا المرة دى شكله مصمم بجد
هز رأسه يمنة ويسرة متعجبا ً وقال وهو يقطع الممر إلى باب الشقة :
- يا ماما هو أنتى مابتحرميش كل مره يضحك عليكى كدة وبعدين ترجعى تقولى مش هادخله فى حاجه تانى وبرضه بتدخلى مفيش فايدة
خرج وتركهم وقبل أن يغلق الباب خلفه شعر بـ"خالد" يتمسك بمقبض الباب من الداخل ليبقه مفتوحا وإشرأب برأسه للخارج وهو يغمز بإحدى عينيه بمكر:
- مين دى اللى شغلت "حسام الصياد" بجلالة قدره للدرجادى  ؟
إبتسم "حسام" إبتسامة واسعة وهو يدفع رأس "خالد" للداخل قائلا :
- يا أخى ده أنت غتيت أوى
أغلق الباب وإنطلق وقد عزم على قطع تلك المسافات اللعينة التى تفصل مدينتيهما عن بعضهما البعض .. بينما ينظران إلى بعضهما البعض عاد "خالد" فى الداخل إلى الطاولة حيث كانت تنتظرة بحيرة بالغة وما أن إقترب منها حتى نهضت قائلة:
- مش قولتلك يا "خالد" حاله عجيب اليومين دول
جلس  "خالد" مرة أخرى وتناول ثمرة تفاح من أمامه على الطاولة وقضم قطعة منها وهو يقول ببساطة:
- بكره هاعرفلك ماله بالظبط يا عمتو مش هيقدر يخبى عنى كتير ما إنتى عارفة أنا كاتم أسراره إطمنى .. المهم بس ياله إستعدى معادنا مع الناس قرب
رفعت حاجبيها بإستنكار وهى تنظر إليه وهو يأكل ثم قالت معترضة:
- أنا مش قلت قبل كده التفاح يتقطع بالسكين .. بتاكل كدة ليه
ضحك بشدة بينما  توجهت هى  إلى الداخل قائلة بتقزز:
- أنت و"حسام" هتجيبولى الضغط
لم يستطع أن يتوقف عن الضحك بعد أن رأى علامات التقزز واضحة على وجهها .. إنتقل إلى غرفة المعيشة وجلس يشاهد التلفاز وماهى إلا لحظات ووجدها تخرج منفعلة بشدة ممسكة بهاتفها وتصيح بغضب:
- شايف عمايله يا " خالد " باعتلى رسالة حاولت أتصل بيه بعدها لقيته قفل تليفونه
إعتدل "خالد" بإهتمام وقال متسائلا ً:
- رسالة إيه دى؟
- بيقول مسافر إسكندرية يومين...!
***
قضى نحو أسبوعان بالإسكندرية فى رحلة تقصى وجمع معلومات بشكل متواصل حتى إستطاع أن يجمع قدر وفير كان كافيا ً جدا ً لإسعاده فلقد كان ينوى حرق تلك المسافات التى تفصلهما ولكنه تفاجأ بأنها هى من سبقته ورحلت إلى القاهرة منذ شهور قليلة وإستقرت بها ..
لقد ذابت المسافات تلقائيا ً إذن ولم يبقى إلا القليل الذى سيذيبه بطريقته الخاصة ! .. قطع الطريق مرة أخرى عائدا ً من حيث جاء .. جاهد عقله فى السيطرة على تلك المشاعرالمتأججة بوجدانة فى محاولة غير جادة للسيطرة عليها وتقييد أفكاره الهاربة إليها تاركة المساحة الكافية لفؤاده أن يبعثه أينما شاء ويعيده متى أراد مما جعله يعبث ببعض الإسطوانات المدمجة أمامه وإختار إحداها وهى المسجل عليها بعض الأشعار المسموعة لنزار قبانى وبصوته فقط ..
إبتسامة منتشية تحمل الكثير من النشوة واللهفة بين طياتها لاحت فوق شفتيه وهو يستمع إلى الكلمات التى تنطق بما يجيش بصدره وظل يتمتم خلفه مرددا ً:
- أشكوكِ للسماء .. كيف إستطعتى أن تختصرى جميع ما فى الأرض من نساء
- أنا عنكِ ما أخبرتهم .. لكنهم لمحوكى تغتسلين فى أحداقى
- أنا عنكِ ما كلمتهم .. لكنهم قرأوكِ فى حبرى وفى أوراقى
- للحب رائحة وليس بوسعها أن لا تفوح مزارع الدراقِ
لم تتوقف شفتيه عن الإبتسام لمدة طويلة رغم توقف الإسطوانة عن الدوران وظل محتفظا ً بها معظم الطريق حتى قطع إبتسامته رنين هاتفه ..
نظر للهاتف وإلى شاشته المضيئة بإسم "خالد" وأجابة بسعادة واضحة :
- "خلود" عامل إيه
إلتفت "خالد" إلى عمته بجواره فى السيارة متعجبا ً ثم قال مازحا ً:
- معلش يا فندم تقريبا ً الرقم غلط أصل اللى كنا عاوزين نكلمه واحد كئيب كده أعوذ بالله منه
ضحك "حسام" ضحكات رنانة إستمعت لها والدته الجابسة بجوار "خالد" فابتسمت رغما ً عنها بينما أردف "خالد" متسائلا ً :
- أنت فين يابنى أخيرا ً حنيت عليا ورديت على تليفوناتى
تنفس بقوة يملأ رئتيه بالهواء العابث الذى يعبث بوجه تارة وبخصلاته تارة أخرى ثم قال :
- أنا راجع القاهرة إنتوا فين دلوقتى
إبتسم "خالد" بمرح :
- يدوب لسه واصلين تحت بيت خطيبتى وقلنا نكلمك قبل ما نطلع
رفع "حسام" حاجبيه وأجاب بدهشة بالغة:
- يا راجل ! لحقت تبقى خطيبتك ؟
مرر "خالد" أصابعه بين خصلات شعره وقال بغرور:
- طبعا يابنى هو أنا حد يقدر يقولى لاء
ثم تابع بقلق:
- المشكله بس إنها لسه موافقتش رغم إن أهلها موافقين جدا وقلت نييجى النهاردة أقعد معاها وأحاول أقنعها
قال "حسام" ساخرا ً:
- يعنى العروسة لسه موافقتش وتقولى خطيبتى طب روح إلعب بعيد بقى
عقد "خالد" حاجبيه وقال وهو يترجل من السيارة ويدور حولها ليفتح الباب لعمته وهو يقول بثقة:
- هتوافق هى هتروح منى فين المهم بقى شد حيلك عاوزين نتجوز فى يوم واحد ولا السفرية دى راحت عليك أونطة
قال"حسام" بتفكير:
- لا أونطة إيه خلاص كلها خطوة واحدة وهاتسمع أخبار حلوة أوى
جذبته عمته من ذراعه إلى الداخل وأخذت الهاتف من يده ووضعته على أذنها وهى تقول على عجلة من أمرها:
- حمد لله على سلامتك يا حبيبى لما تروح البيت أبقى طمنا إنك وصلت لازم نقفل دلوقتى طالعين عند الناس
أغلق الهاتف وواصل الطريق إلى منزله .. صعد الدرج الكبير المؤدى إلى بوابة العقار من الخارج  وهو يبتسم لكل من يواجهه إبتداءا ً من حُراس العقار مرورا ً بالخادمات التى كدن أن يصطدمن به على السلم الذى كان يسابق درجاته صعودا ً فهو كعادته لا يستقل المصعد إلا قليلا ً إلى أن إستقر به المقام بداخل شقته ..
ألقى التحية كعادته على خادمتهم بالمطبخ وهى منشغلة بإعداد الطعام ثم توجه إلى غرفته .. فتح الخزانة الخاصة به وأخرج صورة كان قد رسمها بيده منذ عام تقريبا ً وبالتحديد فى آخر ليلة من ليالى رمضان .. جعل ينظر إلى الصورة ويبتسم وهو يمنى نفسه باللقاء المرتقب وأخيرا ً تذكر كلمات والدته وهى توصيه بالإتصال بهما فور وصوله ..
أضاءت شاشة الهاتف الخاص بــ"خالد" باسم "حسام" وصورته الشخصية .. كان موضوعا ً على الطاولة الصغيرة أمامهما وهو جالس بجوار فتاته وعلى مقربة منها ..
إلتقط "خالد" الهاتف فى سرعة وأجاب وهو ينظر إليها معتذرا ً تحدث إليه قليلا ً وبكلمات مختصرة ثم عاد إليها ملتفا ً بجسده كله وهو يقول :
- أنا آسف والله على المقاطعة .. ها كنا بنقول إيه
إبتلعت ريقها بصعوبة وإصفر وجهها إضطرابا ً بعد أن إلتقطت عيناها الصورة والإسم اللذان أضاء بهما شاشة هاتفه وقالت بإرتباك:
- لا أبدا ً مافيش حاجة كنت كمل كلام عادى مع صاحبك
دهش "خالد" فلقد كانت صامتة تماما ً لم تتفوه سوى بأنها غير مستعدة الآن للزواج أو الإرتباط ثم صمتت وكأنها كانت تخبره رفضها بشكل لائق بهذا الصمت ولذلك وجدها فرصة سانحة ليخرجها عن صمتها وقال ببساطة:
- لا مفيش حاجة إزاى ..وبعدين ده راجل مبسوط بقى وبيحب وماكنش هايبطل رغى
صمتت مرة أخرى ولم تجيبه فقال وهو يحاول أن يختلق أى حديث بينهما :
- أهو صاحبى ده مأجل معاد جوازه بسببنا يرضيكى يعنى كدة
رفعت رأسها إليه متسائلة :
- هو هيتجوز قريب ؟
أجاب على الفور :
- أه طبعا .. ده بيحب وغرقان لشوشته ومش عاوز يحدد معاد جوازه إلا لما إحنا نحدد الأول
ثم إعتدل فى جلسته بحماس وهو يتابع:
- أنا مش عارف إنتى مترددة ليه إدينى فرصة طيب وأوعدك إنك مش هتندمى ..
قولتى إيه يا حبيبة ؟.