الأحد، 18 مايو 2014

روايــة حكايـــة حبيبـــة .. الفصل التاسع

رواية حكايـــة حبيبـــة 

الفصل التاسع 


الفصل التاسع


ترك جسده يسقط بعنف فوق فراشه الوثير .. هو غاضبا ً جدا ً .. هو ثائرا ً لأبعد حد لو كان غيرها من أغضبه هكذا لبات ليلته يئن .. أغمض عينيه لعله يهدأ قليلا ً .. لعله ينسى كلماتها الجارحة التى قذفتها بوجهه ودمعها منساب فوق وجنتيها بغزارة .. لقد رفضت حبه بشدة واتهمته بالأنانية صراحة وضغطت جرحه بقوة ..  " كيف تبنى سعادتك فوق حطام " خالد وهدى" بتلك البساطة؟ ..

لم يكن يدرى هل يعنفها أم يربت على وجنتها لتهدأ .. ولكنه لم يفعل ظل ينظر إليها وهى تهتف بين يديه معلنة أنه يهذى وأن ما يقوله أوهام وتخيلات عقله المريض وأنها تحب "خالد" ولا تريد فراقه .. " كاذبة أنتِِ يا حبيبتى وتعلمين ذلك " ! ..  
ولكنه لم يقوى على منعها من المغادرة وهى تحذره من أن يقربها بعد الآن ..  لقد كادت أن تسقط وهى تعدو بعيدا ً متعثرة بكذبها وترددها وضعفها .. بل وحبها أيضا ً ! .. ولكن لا مفر سيبتعد كما أرادت ولكن .. ستظل النار مشتعلة تحت الرماد .
****
مرت الأيام تلو الأيام جاهد فيها ألا يلاقيها متجنبا ً أى مجلس أو مكان يجمعهما بل ومتجنبا ً سيرتها أيضا ً .. حاول أن يتقرب من خطيبته ولكن فى كل مرة يجد صدودا ً منها ومنه قبلها .. وفى كل مرة كان يستمع إلى نفس العبارات المكررة من والدته وهى تقول " بكره لما تبقى جوزها هتحس إنها بتحبك أصلها بتتكسف أوى" .. لم يكن يحتاج إلى تلك الكلمات فهو لم يكن يبحث عن حبها بقدر ما يبحث عن دواء آخر يشفيه من علته الدائمة .. ولهذا لم يتوقف بحثه عند صدود "هدى" وفقط .. بل لم يحتاج إلى البحث من البداية فالمعجبات كثيرات حوله ينتظرن منه إشارة واحدة .. يكفى أن يبتسم فقط  وهو يرفع تلك الأوزان الحديدية الثقيلة التى تبرز عضلاته المفتولة وتجعلها واضحة فتلمع لها أعينهن شوقا ً لملامستها أو تراه أخرى وهو يقفز داخل سيارته المكشوفة فتتناثر بعض خصلات شعره فوق عينيه لتسقط أسيرة هواه  ...
عرف هذه وترك أخرى واستجاب لأخريات ..
 وفى كل مرة يهتف قلبه هتافا ً يتردد صداه بين أضلعه..
" جربتُ الحب مرات عديدة وفى كل مرة أحبك أنت "  .

****
كيف يدعى حبها وهو يفعل ما يفعل !.. هكذا صرخ قلبها قبل عقلها متسائلا ً غاضبا ً .. ورافضا ً .. وهى تستمع إلى الحديث الحانق المنساب من بين شفاه " نور"  .. كيف يجروْ على الخيانة بتلك البساطة .. ولكن مهلا ً أى خيانة تلك التى تتحدث عنها .. ألم تكذبه .. ألم تحذره وتأمره بالإبتعاد فما بالها الآن غاضبة تريد الفتك به وقد علمت الحين بفتياته ومغامراته التى ذاع صيتها وسردتها عليها والدته بعدم رضى وهى تشكو تحوله المفاجىء ذاك

وفى النهاية ألقت عليها قنبلتها الأخيرة 
وهى تقول موجهة حديثها إلى "خالد" الجالس بجوارها :
- ومش بس كده لا ده جاى يقولى أنه حدد معاد فرحه خلاص وإتفق مع "هدى" عليه
كان يشعر بملل وهو يستمع إلى حديثها .. وما المشكلة فيما تقول ! .. إنه رجل ويحق له أكثر من هذا ومادام لن يتزوج بأحداهن فما الداعى للقلق إذن ؟! .. تنهد وهو يضع قبضته أسفل ذقنه قائلا ً :
- خلاص يا عمتو أهو هيتجوز وترتاحى من مشاكله
زفرت بضيق ثم ضغطت جبينها قائلة:
- معاك حق ويارب الجواز يصلحه ويرجعه زى الأول
أرسل "خالد" تنهيدة حائرة وهو يقول متعجبا ً:
- عارفه يا عمتو الكلام ده كله مش محيرنى أنا اللى مضايقنى  بجد أنى لما عرضت عليه يستنى شوية ونعمل فرحنا فى نفس اليوم إتعصب من غير سبب ورفض بطريقة غريبة أوى مش عارف مش طايق نفسه كده ليه

لو كانا نظرا إليها فى تلك اللحظة لربما وجدا الإجابة حاضرة فى عينيها فلقد كان خبر تحديد ميعاد زواجه كفيل بأن يثير رياح الحزن بوجهها وأمواج الدموع بعينيها .. نهضت من مقعدها بالمطعم الذى كانوا يتناولون وجبة الغذاء به متعللة بالحديث فى الهاتف وأخفت عينيها بخصلات شعرها المتدلية فوقهما وابتعدت للخارج لتستطيع السيطرة على تلك الشلالات المتدفقة منهما .. هكذا إذن يا "حسام" تدعى حبى وملكيتى لك وأنت تتقلب بين الفتيات والنساء غير عابىء بشىء .. أوهكذا يكون الحب ؟! .. لقد كنت محقة حينما إتهمتك بالأنانية ودفعتك للخروج من حياتى دفعا ً  .. توقف أيها الدمع أرجوك فما شأنى أنا بما يفعل ؟ لا تقتلنى كما قتلنى هو وبعثر أشلائى بين حناياه .
***
وفى قاعة الزفاف هناك تحركت عيناه سريعا ً بين الحضور والمدعويين باحثا ً عنها فلقد راهن نفسه بالأمس أنها لن تأتى .. إرتسمت إبتسامة جذلة بين شفتيه وهو ينظر إلى باب القاعة وقد دلف منها والديها ثم "راغب" وأختيها ومن خلفهم "خالد" وحيدا ً .. هى ليست معه .. غير معلقة بذراعه .. أعطت فرصة أخرى لقلبه ليرقص طربا ً وهو يستمع إلى والدتها وهى تهنىء "هدى" بالزواج ثم تقول معقبة "  معلش "حبيبة" تعبانة شوية مقدرتش تييجى " ... نعم لم يكن بمقدورها الحضور .. نعم هى مريضة ولكنها مريضة بحبه .. هكذا حدث نفسه باسما ً! .. لا تستطيع أن تراه وهو يُزف لغيرها .. لقد كان على حق لقد فاز برهانه .. ولكنه رهان كلا الطرفين فيه خاسر ! .
***
- "حسام" إنت ليه مش هاتحضر فرح "خالد" ؟!
هكذا قالت "هدى" وهى حائرة من أمره .. صمتت قليلا ً وهى تنظر إلى ذاك الغاضب المرتكز بساعده إلى حافة النافذة متجمدة عيناه فى بقعة ما بعيدة وربما تكون غير موجودة بالمرة سوى بعقله فقط .. أعادته عبارتها إلى أرض الواقع مرة أخرى وقال ببرود :
- أول مرة أشوف عروسة عاوزه تقطع شهر العسل وترجع مصر علشان فرح حد تانى
مطت شفتاها بلامبالاة وهى تجيبه قائلة:
- لا مش كده بس إحنا طولنا فعلا هنا فى تركيا بقالنا شهر ونص وماما وبابا وحشونى أوى
ابتسم بجمود وقال ساخرا ً:
- آه علشان كده بقى طب ما تقولى كده من الأول
شعرت بحنق شديد يلفها وهتفت بضيق:
-  يا "حسام" انت على طول ساكت وسرحان حتى لما بنخرج نتفسح بحس إنك مش مركز معايا أصلا وبصراحة بقى أنا زهقت وعاوزه أرجع مصر
أغمض عينيه وخرجت كلماته متألمة وهو يقول :
- اسبوعين كمان وننزل مصر
تحولت إليه بجسدها كله دفعة واحدة وهى تهتف بدهشة:
- أسبوعين ليه ؟! .. ما ننزل بكره ولا بعده وبالمرة نحضر فرح "خالد وحبيبة"
كانت تنتظر جوابا ً ولكنها وجدت عاصفة متحركة قادمة نحوها وهو يصيح غاضبا ً:
- أنا مبحبش حد يقولى لاء .. فاهمانى
أنهى عبارته وتنحى جانبا ً قبل أن يلتهمها بداخل بركانه الثائر وخرج من الغرفة بأكملها وصفع الباب خلفه بقوة اهتزت لها الجدران وزجاج النوافذ وجعلتها تجفل منتفضة مندهشة .. ماهذا الرجل ؟! إنه حنون أحيانا ً ..شغوف أحيانا ً .. شاردا ً معظم يومه غاضبا ً بلا أسباب ! .. أغمضت عينيها لتستعيد هدوءها وتناولت هاتفها النقال لتحدث والدتها وتسرد عليها يومها بكل تفاصيله كما تفعل دائما ً ! .
***
 حفل زواج آخر لم يبعد كثيرا ً عن الحفل الأول سوى شهرا ً واحدا ً وأيام قليلة .. وها هى نفس القاعة تتزين مرة أخرى لاستقبال عروسها الجديد .. وعلى نفس الأريكة البنفسجية الوثيرة المزينة حوافها بالتل الأبيض المرصع بزهور الياسمين والبنفسج الطبيعية لتعطى مزيجا ً متجانسا ً بين الرقة والجمال والروائح النفاذة المنعشة جلست "حبيبة" بجوار "خالد" بثوبها الأبيض والتى تتداخل فيه الخيوط الفضية اللامعة مع الخيوط الذهبية البراقة حول الخصر والذيل الطويل الذى أعطاها مظهرا ً ملكيا ً فريدا ً وطرحتها المصنوعة من التل المرصع بفصوص صغيرة تلمع عندما تحرك رأسها ومثبتةً بعناية أسفل شعرها المرفوع معظمة للأعلى وقد إنسابت منه خصلات ليست بالكثيرة حول وجهها برقة ونعومة ..

هى أيضا ً كانت مترقبة معلقة عينيها بباب القاعة البعيد ولكنها كانت تختلف عنه كثيرا ً فلقد كانت تتمنى عدم حضوره بل وتخشاه بشدة فى تلك اللحظة الفاصلة فى حياتها المستقبلية ..
 هل أخشى أن أصبح العروس الهاربة بثوبها الأبيض بأمر من عينيه ؟! .. لا لن أخضع سأتحاشى النظر إليه  ..  ولكن ..
 ماذا لو قبل أناملى ؟ هل سأتحسس موضع شفتيه على ظهر كفى  ؟ أم سترفض راحتى مغادرة قبضته فيفتضح أمرى ؟ . ليته لا يأتى ..
 كانت كلمات " نور" فى تلك الحظة هى طوق النجاة عندما همست لهما معتذرة :
- ماتزعلوش من "حسام" يا ولاد إنتوا عارفين بقى شهر العسل نساه نفسه
إطمأنت أكثر عندما أردف "خالد" قائلا ً:
- ولا يهمك يا عمتو هو كلمنى واعتذرلى .. غصب عنه مش لاقى حجز خالص

أرخت جفنيها براحة كبيرة عندما تيقنت من عدم حضورة وعبثت بطرف ثوبها فى استرخاء شديد غير عابئة بأصدقاء "خالد" الذين بدأوا فى التوافد والإلتفاف حوله بجوارها بعضهم يهنئة والآخر يهمس له بمكر وهو يدس بسترته شىء صغير لم تراه حينها بوضوح ولم تكن تعلم ماهو ..
وانطلق الدخان الأبيض الشفاف من مضخاته المستترة حول مقعدا العروسين  متجانسة مع بدء انسياب الموسيقى الهادئة التى تدعوهما للرقص البطىء .. تناول "خالد" أناملها بين أصابعه آخذا ً إياها إلى تلك الدائرة المضيئة بوسط القاعة بأنوار متلألأة حول حوافها المرتفعة قليلا عن الأرض ..

وضع يديه حول خصرها ونظر فى عينيها وفى تلك اللحظة لم يبقى معها سوى بجسده فقط .. لقد رحل بعيدا ً بقلبه عائدا ً به سنوات إلى الماضى البعيد .. شعر بأن "حنين" تحتل وجه "حبيبة" رويدا ً رويدا ً وتبتسم له بسعادة وشوق كبير .. ابتسم وهو يطبق بدون وعى حول خصرها باضطراب كبير .. أخذته من ماضيه عندما سألته بقلق :
- مالك يا "خالد" ؟!
أغمض عينيه محاولا ً إستعادت قلبه المأخوذ  وقال مستفهما ً :
- مالى؟
ابتسمت متعجبة وهى تشير بعينيها إلى وجنته قائلة:
- مش حاسس بالدموع دى ؟!
انتبه إلى أن عينيه تدمع بالفعل دون أن يشعر فمد أصابعه يمسحها على الفور وهو يبتسم ابتسامة خاوية قائلا بمرح مصطنع :
- الدخان بقى معلش
ابتسمت غير مصدقة إياه ولكنها لم تعقب فكل منهما بعيدا ً عن الآخر بما يكفى برغم إلتحام جسديهما


مال "راغب" قليلاً باتجاه زوجته وقال ساخراً:
- أختك شكلها مش طبيعى
ابتسمت "نشوى" وهى تقول بزهو :
- أنا عارفه ليه
نظر إليها بلهفة فطريقتها توحى بأنها لديها الكثير والكثير لتقوله ولكنه لم يسأل ..أنتظر فهو يعلم زوجته جيداً ويعلم أنها تريد البوح بما لديها .. طال صمته فقالت على الفور:
- ايه مش هتسألنى عارفه أيه ؟
أبتسم بثقة وهو يقول:
- طالما قولتى أن فى حاجه يبقى هتقولى من غير  سؤال
ضحكت بجذل فهما يفهمان بعضهما البعض جيداً ثم قالت بهمس بعد أن نظرت حولها :
- يوم خطوبة "حسام" سمعتهم بيتكلموا لوحدهم وكانوا منفعلين أوى لدرجة ماخدوش بالهم أنى قريبة وصوتهم كان عالى سمعت كل حاجه تقريباً

أستند بظهره إلى المقعد قليلاً وهو يفكر ثم عاد إليها مرة أخرى وهو يومىء برأسه ليحثها على المتابعة وقد شحذ حواسه جميعاً استعداداً لما بدأت هى فى سرده على أذنيه هامسة .. كلما انغمرت فى سردها كلما لمعت عينيه جذلاً وهو يفكر كيف سيستخدم ما تُقدم له من معلومات ثمينة فى المستقبل  .. عندما رأت بريق عينيه يتصاعد فهمت ما يفكر به سريعا ولكنها لم تستطع أن تصل إلى مكان ما بعقله أو بقلبه لترى النشوة التى حلت به وهو يتخيل "حبيبة" تستجيب له هو الآخر خوفاً من أن يفشى سرها مع "حسام" ويفضحهما معاً .
****
أنتهى الحفل وأستقرت "حبيبة" بجوار " خالد" بسيارته ولوحت للجميع بابتسامة صغيرة مودعة وهو ينطلق بها فى طريقهما إلى منزله .. كلما ابتعد عن الفندق كلما خفق قلبها بشدة وهى تنظر فى المرآة بجوارها وترى أنعكاس صور أسرتها وأصدقائها تتلاشى شيئاً فشيئاً ..  وكأنما تختفى حياتها القديمة ليحل محلها مستقبلها الجديد بصحبة " خالد" الذى ينظر إليها بين دقيقة وأخرى مبتسماً بسعادة ويزيد من سرعة انطلاقة إلى المنزل ..

دلفت بوجل للداخل بعدما أغلق الباب خلفهما مرحباً بها وهو لا يدرى أن قلبها يكاد يقفز خارج حنجرتها من فرط الخوف والإضطراب والترقب .. 
وقد زاد ترقبها وقلقها  عندما رأته يبتلع ذاك الشىء الصغير الذى أهداه أياه صديقه فى حفل زواجهما منذ قليل وتلاه بلفافة تبغ غريبة الشكل عندما اشعلها خرجت رائحتها مقززة مما جعلها تبتعد فى غرفتها وهى تضع يديها فوق صدرها لعلها تهدأ قليلاً أو تجد حلاً ما ..
ولكنه لم ينتظرها كثيراً ..
 هل سقطت مغشياً عليها من شدة الخوف أم من فرط قسوته وتبلد مشاعره وهى بين يديه ؟ .. لا تعلم  ! .. 
 كل ما علمته وشعرت به هو الألم الذى انتشر بجسدها دفعة واحدة وارتجافة أوصالها التى ترتعش  بلا توقف . لم يستمع لها وهى ترجوه أن يتركها الليلة فقط .. وهل كان فى وعيه حتى يستمع لها ؟! . . لم يكن فى حالته الطبيعية وكأنما تجمد أحساسه بها وبوجودها معه من البداية .. أنتهى منها مولياً ظهره إليها مترنحاً .. نام وكأنما أغشى عليه فجأة واصبح دون حراك .


أستيقظت فى الظهيرة لتجد أمامها شخصاً آخر غير ذاك المتجمد بالأمس .. لقد كان مرحاً للغاية
وهو يوقظها هاتفاً :
- يالا قومى يا كسلانه ورانا سفر
حدقت به بدهشة .. لم تستطع فى البداية استيعاب تبدله هكذا فضلاً عن أن تستوعب حديثه عن السفر
وهى تتسائل :
- سفر أيه ؟!
جذبها لتنهض من الفراش وهو يقول بغموض:
- هتعرفى بعدين يالا قدامنا ساعه بالكتير وننزل من البيتجمعت بعض ملابسها على عجلة منها كما أمرها وهى تتذكر قبل الزواج بايام عندما طلب منهاجواز سفرها ولم يشأ أن يخبرها عن السبب حينها رغم تكرار سؤالها عنه ..
 الآن قد علمت لماذا .. لقد جهز رحلة ما إلى بلد ما ولكن على اية حال لن يختلف الأمر كثيراً ولن يصبح أكثر سوءاً مما واجهته الليلة الماضية .. لقد كانت الأسوء على الإطلاق ..
 أو هكذا كانت تظن ! . 

الجمعة، 9 مايو 2014

روايـــة حكايـــة حبيبـــة .. الفصل الثامن

روايــــة حكايــــة حببــــة

الفصل الثامن 



الفصل الثامن


عندما يهمس القلم تنصت الأوراق وتخفق للهيب الأحبار .. نطق القلم بين أصابعها هامسا ً بحيرتها " لابد من محادثته مباشرة لأعرف كيف استطعت أن أراه فى لحظة موت كتلك التى مررت بها فى المياة .. كنت أعتقد أنه وهما ً حتى تلك اللحظة التى تفاجأت فيها أنه كان يغرق بالفعل ولكن فى الإسكندرية ! ..  هل كان حلما ً أم حقيقة ؟ يكاد رأسى أن ينفجر منذ أن رأيت الذهول بعينيه فى السيارة .. هناك شىء ما خفى  .. ولكن كيف أتحدث إليه ومتى ؟ لا .. لا .. مستحيل .. لا أعلم لماذا أخشى الحديث معه بل أخشى النظر إلى عينيه .. أشعر أنه يقرأ ما يدور بعقلى وأزعم أننى كذلك أيضا ً أستطيع قراءة أفكاره ! ..
تركت قلمها ينزلق من بين أصابعها راحلا ً ليسكن راقدا ً بين دفتى مفكرتها الخاصة ونهضت متباطئة وهى تعبث ببعض خصلات شعرها واقفة أمام المرآة الكبيرة تفكر .. " ولكن ما فائدة المواجهة الآن .. وما أهميتها ؟ ومنذ متى وأنا أسعى لحل عقدة ما تقض مضجعى ".. لمعت عينيها بإصرار واعتدلت وقفتها بجدية حاسمة " لا لن أفعل ذلك لابد وأن أتغير لتتغير حياتى بأكملها لابد من وضع النقاط فوق الحروف فى كل أمورى لن أخلف عهدى هذه المرة سأتحدث إليه لا لشىء سوى لأنى فقط أريد أن أعرف ما الأمر ليس إلا " ! .. 
مرت الأيام ولم تفى بعهدها .. كلما اقتربت خطوة تراجعت للخلف خطوات .. لم يؤرقها هذا فهو ليس جديد عليها .. وصل بها الحال لدرجة رفض كل دعوة من " نور" عمة "خالد" للإفطار فى منزلهم متحججة بحجج واهية حتى شارف شهر رمضان على الإنتهاء وانشغلت " نور" بالإستعداد لخطبة ولدها الثائر دائما "حسام" !.. خشيت من لقاؤه كثيرا ً ولو صدفة ! .. معتادة هى على تراجعها تؤثر السلامة فى الابتعاد والسكوت دوما ً هذه هى "حبيبة"
*********
استقلت "هدى" السيارة بجواره بابتسامة صغيرة بينما جلست أختها "سمر" بالمقعد الخلفى وهى تقول بمرح:
- معلش بقى هاركب معاكوا يا "حسام" أصلى بحب العربيات العالية ...
ابتسم لها  باقتضاب وهو يلقى إليها نظرة فى المرآة مرحبا ً ثم ما لبث أن رفع حاجبيه مندهشا ً وقد لمحت خبرته الطويلة فى عالم الفتيات رنة خاصة فى حديثها عندما تابعت قائلة :
- أنا أصلى بحب المغامرة أوى
حاول أن يتجاهل ذلك الشعور الغريب وهو ينطلق بسيارته ببطء حتى يسمح لسيارة والدته أن تسبقه لتكون أمامه تماما فى طريقهم لشراء "الشبكة" .. كانت والدته تصطحب معها والدة " هدى" تاركة لهما المجال للحديث منفردين ولكن "سمر" قاطعت ذلك  وأصرت على مصاحبة "هدى" و " حسام"  فى سيارته .. وفى الزحام ابتعدت سيارة والدته قليلا . لمح "حسام" مراقبة "هدى " للطريق محاولة النفاذ ببصرها بين السيارات فقال مطمئنا ً لها :
- متقلقيش هما قدامنا أنا شايفهم
التفتت إليه وهى تقول موضحة :
- أنا مش قلقانه أنا بس مش عاوزه حد فينا يسبق التانى المفروض نوصل مع بعض بالظبط
فقال متسائلا ً :
- وليه المفروض نوصل مع بعض بالظبط يعنى ؟
ابتسمت ساخرة وهى تقول :
- علشان دى الأصول فى المواقف اللى زى دى وبعدين علشان إحنا متفقين على كده ولازم كل حاجة تمشى مظبوط
رفع حاجبيه وهو يهز رأسه بسخرية قائلا :
- آاه الأصول .. تصدقى ماكنتش واخد بالى
ثم أردف متسائلا ً:
- بس إيه حكاية إنك عاوزه كل حاجة تمشى مظبوط دى ؟
اندفعت "سمر" فى الحديث قائلة بمرح :
- هى "هدى" أختى كده على طول لازم كل حاجة بمواعيد وبالثانية كمان ولازم كله يمشى مظبوط على الجدول .. نسخه من بابا فاكرة نفسها فى الجيش
أنهت عبارتها وهى تضحك  ضحكات ساخرة شاركها "حسام" إياها وهو ينظر أمامه للطريق متعجبا ً قاطعتهما "هدى" حانقة:
- وهو النظام وحش يعنى ؟ 
تركهما تتعاركان بالكلمات وكل منهما تحاول إبراز صحة منطقها وتابع سيارة والدته التى توقفت على إثر انغلاق إشارة المرور .. توقف هو الآخر خلفها لا يفصل بينهما سوى سيارة واحدة وفى الجوار بجانبهم توقفت سيارة حمراء عصرية تستقلها فتاة على درجة عالية من الجمال .. ألقى "حسام" نظرة عابرة إلى السيارة التى تنبعث منها أصوات الموسيقى صاخبة ثم عاد ببصره إلى الأمام مرة أخرى وماهى إلا ثوانى وسمع صفير منغما أطلقته "سمر" الجالسة فى الخلف ثم قالت :
- سيدى يا سيدى ده إنت بتتعاكس علنى أهو
ثم تابعت موجهة حديثها إلى "هدى" التى نظرة للسيارة الحمراء وفتاتها بفضول عندما سمعت أختها تقول :
- إلحقى يا "هدى" خطيبك بيتعاكس
 لاحظت "هدى" أن الفتاة تنظر إليه بشغف وقد رفعت نظارتها تجمع بها شعرها الثائر حول وجهها ولا تبدى اهتمام بمن ينظرون إليها .. ثم زفرت بضيق قائلة:
- تفاهة
كان معلقا ً نظارته الشمسية السوداء بين أزرار قميصه فتناولها مرتديا ً إياها فوق عينيه وهو يقول بلا مبالاة:
- لا لا لازم تتعودى على كده  ده العادى أصلا
تجاهلت "هدى" حديثه الذى أنبأها بأنه سعيد بتلك المعاكسات بل ومغرور أيضا ً بها وعندما بدأت السيارات بالحركة قالت مستفهمة :
- هو إنت لبسك جينز كده على طول ؟
ابتسم وهو يومىء برأسه مؤكدا ً :
- أيوا واحتمال ألبس جينز فى خطوبتنا كمان إيه رأيك ؟
ضحكت "سمر" والتفتت "هدى" للإتجاه الآخر تبحث عن سيارة والدته وبداخلها شعور قوى أن من ستقدم على الزواج منه برغم وسامته وجاذبيته ووضعه الإجتماعى إلا أنه مختلف تماما ً عنها وتلك الإشارات التى رأتها منذ أن استقلت السيارة بجواره ترجوها أن تتراجع فهو سيرهقها بالفعل ! ولقد شعرت بهذا من قبل ولكن والدتها أقنعتها أن باستطاعتها أن تدير دفته لصالحها وتغير من شخصيته كما يحلو لها إن تمتعت بالذكاء الكافى .. فوافقت على الإستمرار ونسيت أن من يحاول تغيير شخصية الآخر ليصبح نسخة كربونية أخرى منه .. مقدم على الوقوع فى بئر اليأس الذى لا عودة منه والذى ينتهى السقوط فيه بالإرتطام الدامى حتما ً ! ..
************
مال "خالد" إلى الأمام وقد ظهر عليه علامات الوهن والضعف وهو يقول هامسا ً :
- هى عمتى بتصلى التراويح ولا إيه كل ده بتصلى المغرب حرام أنا هموت من الجوع
مال "حسام" إلى الأمام هو الآخر متكئا ً بمرفقيه فوق المائدة بيأس:
- تفتكر هانفطر قبل العشاء ولا بعدها ؟    
ضحكت وهى مقبلة عليهما بثياب الصلاة وتقول :
- أحسن علشان بعد كده تقوموا تصلوا المغرب الأول
جذب "حسام" طبق ورق العنب من يد "خالد" بقوة وهو يقول بلهفة :
- حمد لله على السلامة يا " نـون" أنا قولت إنتى بقيتى من أولياء الله الصالحين وروحتى تصلى المغرب فى الكعبة
دقت بقبضتها على سطح المائدة وهى تقول ناهرة إياه :
- بالشوكة يا "حسام"
مط شفتيه بضيق بينما إلتهم "خالد" قطعة من اللحم كانت أمامه وهو يقول متسائلا ً:
- فيها إيه لما نفطر الأول وبعدين نصلى
تناولت كأس العصير بين أصابعها وهى تتذكر زوجها الغائب بجسده الحاضر بروحه وبذكرياته الماثلة أمامها دائما وهو يطعمها بيده بعض حبات التمر أولا ثم يأخذها لصلاة المغرب خلفه ثم يعودا إلى المائدة مرة أخرى وهو يقول براحة كبيرة مجيبا ً على سؤالها
" هى دى السنه النبوية يا نـون  " . ابتسمت كما تفعل دائما عندما تتذكره وهو يداعبها بهذا الاسم الذى أطلقه عليها بعد زواجهما مباشرة والذى كان يستخدمه ولدها دائما ليداعبها به هو الآخر مشاكساً إياها
عادت من ذكرياتها لتتابع الحديث الدائر بين "حسام وخالد " وهما يتناولا إفطارهما . ولقد كان "خالد" فى تلك اللحظة يتحدث مجيبا ً على تساؤل "حسام" قائلا :
- شوف يا سيدى .. أول مرة شوفتها كانت داخله المحل تدور على حاجات معينة
ثم شرد بعيدا ً وهو يتابع بصوت متهدج:
- أول ما شوفتها حسيت إنى شايف "حنين" الله يرحمها واقفه قدامى
ترقرق الدمع بعينى " نور" وهى تردد:
- الله يرحمها .. فعلا "حبيبة" فيها من "حنين" حاجات كتير
تابع "حسام" ملامح الحزن البادية على وجه "خالد" وتفرس فيها بعمق وهو يستطرد قائلا:
- لقيت نفسى ماشى وراها مش عارف ليه .. لحد ما عرفت طريق بيتها .. راقبتها كام يوم وسألت عنها وعن أهلها لقيتها بنت كويسة .. ماكنتش عارف أنا براقبها ليه وفجأة طقت فى دماغى فكرة الجواز مش عارف ليه برضه !
نظرت له عمته وقالت بجدية معاتبة :
- معقوله يا "خالد" يعنى السبب الوحيد اللى خلاك تتشدلها وتفكر تتجوزها إنها شبه "حنين " ؟ وانا اللى كنت فاكراك بتحبها !
ترك "خالد" المنشفة الصغيرة التى كانت ينظف بها فمه من أثر الطعام ونهض وهو يرسل تنهيدة حارة طويلة ثم قال مغيرا ً مجرى الحديث :
- المهم دلوقتى أنا هاعملها حفلة عيد ميلادها مع خطوبة "حسام" اعملوا حسابكوا على كده
*********
وكأن اليوم يتكرر وكأن العام الماضى قد أتى مرحبا ً بها ثانية مقدما ً لها ذكريات قريبة كهدية يوم ميلادها ولكن هذه المرة السفينة لم تغادر المرفأ   !.. القاعة بداخل السفينة مزدحمة للغاية والموسيقى الصاخبة تعلو من بين جنباتها .. تسطع الأضواء بلونيها الأبيض والذهبى  لتكون دائرتان مضيئتان واحدة منهما مسلطة على العروسين "هدى وحسام" وأخرى فى جزء آخر من القاعة والمخصص لحفل عيد ميلادها على "حبيبة " المبتسمة بخجل واضطراب في محاولة لتحاشى الضوء والهرب من الموقف وتصنعها الحديث مع "خالد" الذى جلس  بجوارها فوق المقعد الأحمر الوثير قائلا بعبث محاولا رفع صوته  قليلا لتسمعه :
- مكنتش أعرف إنك بتكسفى أوى كده
وبعد بداية موسيقية صاخبة هدأت الموسيقى قليلا ً وبدأ المصورون بالتقاط الصور الفوتوغرافية .. سطعت فلاشات العدسات بقوة فطغت على ابتسامة "هدى" المتعلقة بذراع " حسام" بيد وباليد الأخرى ملوحةً إلى صديقاتها مرحبة بهن .. لم يكونوا يلوحن لها فحسب بل يلتهمن بأعينهن خطيبها  الواقف بجوارها بهدوء لا يدرى أو ربما يدرى ما تفعل رجولته الطاغيه فى قلوبهن الآن .. إنها من المرات القلائل التى يرتدى فيها حُلته الكاملة وربطة العنق السوداء التى لا يطيقها كثيرا ً والتى تختلف اختلافا كبيرا مع شخصيته الجامحة .. وبعد قليل أقبل المدعويين بهدوء لتقديم التهنئة للعروسين ثم دعتهما والدة" هدى" للجلوس فى أريكتهما الخاصة والمزينة بالتُل الأبيض من الجانبين وبعد لحظات أقبل "سليم " يصافحهما ثم تنحى بـ"حسام" جانبا ً ليحدثه فى أمر هام
وفى موقع آخر كانت عائلة "حبيبة" تحيط بها هى و"خالد" لإلتقاط الصور وتقديم هدايا عيد الميلاد .. كان يحاول جاهدا ً أن يتحاشى النظر إليها وهو يحدث والدها  فكلما نظر إليها وجد بجوارها "خالد" ! .. مُمسكا ً بيدها المعلقة بذراعه بحميمية تفتك بقلبه .. ولكن يبدو أن قلبه لن يستريح ولن يهدأ فى تلك الليلة الصاخبة أبدا ً ..
مرت "نور" مبتسمة  بجوار "سليم وحسام " مرحبة برقتها المعهودة  والذى بادلها الابتسامة والتحية ثم عاد يتحدث إلى "حسام" باهتمام شديد
ثم أقبلت نحو  "حبيبة وخالد" بحماس قائلة :
- يالا علشان تباركوا لـ"حسام وهدى"
تقدمتهما وهى تتحدث ملوحة بيديها برقة وسعادة موجهة حديثها إلى "حبيبة"  :
- واضح أن باباكى يا "حبيبة" انسجم أوى مع "حسام"
ألقت "حبيبة" نظرة تجاههما فوجدت والدها يميل برأسه باتجاه " حسام " ويبدو أنهما يتحدثان حديثا خاصا ً جعلهما يبتعدان قليلا ً عن "هدى" ومن يحيطون بها  .. لم يكن من الصعب عليها فى تلك اللحظة أن تتنبأ بما يدور بينهما .. صافحه والدها بابتسامة ممتنة وهو يبتعد تاركا ً المجال لابنته وزوجها ليقدما تهانيهما للعروسين .. إحتضنه "خالد" بقوة مداعبا ً وهو يقول:
- مبروك يا وحش
اغتصب"حسام" ابتسامة صغيرة وهو يمد يده لمصافحتها وهى تقول :
- مبروك يا "حسام"
لم يستطع إلا أن يطيل النظر إلى عينيها وكأنه يسبح فى بحر مظلم يبحث فيه عن قارب للنجاة وهو يقول :
- متشكر وكل سنة وانتى طيبة
تنحنحت مضطربة وهى ترجو يدها أن تنسحب من تلك المعركة الخاسرة بداخل قبضته .. ثم اتخذت خطوة إلى اليسار لتجبره على تركها  .. قدمت تهنئتها إلى "هدى" وقبلتها قبلة صغيرة وتنحت جانبا ً تبحث عن "خالد" الذى اختفى فجأة من أمام ناظريها بمجرد أن قدم تهنئته للعروس...
وقفت تبحث عن عائلتها لعله لحق بهم فوجدت والدتها تقف بجوار عمته ووالدة " هدى" يتبادلن أطراف الحديث اقتربت منهن ووقفت مبتسمة بضجر .. لم تستمع بالحديث الذى كان يدور بينهن عن فخامة المكان وأناقته فابتعدت قليلا ً وهى تدندن بصوت خافت مع الموسيقى الهادئة التى أضافت بعض الهدوء على المكان .. لماذا كلما جمعتها مناسبة مع تلك المياه تشعر بالوحدة والاضطراب .. حتى وإن كانت هى أحد نجوم الحفل إلا إنها دائما تشعر بالوحدة والإختناق وتود لو تبتعد عن الجميع وتلجأ إلى ركن قصى ! ..
أما هذه المرة فمحاولة الهرب ستكون أكثر جدية فهى تشعر بعينيه تحيطها من كل جانب هل يحميها أم يراقبها ؟ ..  شعرت بيد توضع على ذراعها من الخلف فاستدارت لتجد أمامها "راغب" زوج أختها "نشوى" مبتسما ً وهو يمد يده بمرح إليها قائلا:
- إيه رأيك بما إن إنتى زهقانة وأنا تايه ما تيجى نرقص سوا
ابتسمت وهى تستجيب له على مضض .. لم تكن المرة الأولى التى تشعر فيها بنظرات "راغب" الثاقبة لها والتى لا تعيرها اهتمام فى كثير من الأحيان ولكنها كانت المرة الأولى التى يتدخل فيها بشئونها الخاصة متسائلا:
- مبسوطة مع "خالد" ؟
رفعت حاجبيها مندهشة وهى تقول:
- آه مبسوطة .. بتسأل ليه ؟
حرك رأسه بلا مبالاة وهو يقول:
- لا أبدا مجرد سؤال أنا بس باطمن عليكى
نظرت إليه بعناد وقالت:
- لا إطمن "خالد" إنسان كويس أوى وبيحبنى جدا
تظاهر بالإقتناع وهو يقول :
- أكيد طبعا أنا متأكد إنه بيحبك
ثم عقب مشككا ً :
- وإلا ماكنش ساب كل الستات اللى كان بيعرفها واتجوزك
تجاهل النظرات المتسائلة فى عينيها وهو يردف:
- ياريتك كنتى ظهرتى فى حياته من زمان يمكن كان حافظ على فلوسه اللى ضيعها على الستات دول
تمتمت غير مصدقة:
- ضيع فلوسه على الستات ؟ !
رسم التردد على وجهه بإتقان وهو يقول :
- إيه ده هو انتى ماكتنتيش تعرفى ؟
تركته معتذرة وابتعدت عنه تبحث عن "خالد" فى كل مكان .. ولكن لا أثر له تُرى أين ذهب ؟! خرجت من القاعة المغطاة إلى سطح السفينة المكشوف تسير وحدها بشرود .. كيف يكذب عليها ويقنعها بأنها أول فتاة بحياته وأنها هى الأولى والأخيرة فى قلبه.. كم أنا ساذجة لقد صدقته بالفعل .. لماذا يكذبون جميعا ً ؟ .. "شادى" ثم "خالد" ومن أيضا ً ؟ .. جال "حسام" بخاطرها فى تلك اللحظة ووجدت نفسها تحرك رأسها نفيا ً وأرسلت تنهيدة حارة راجية..
 وأنت أيها الوهم لا تكن كاذب مثلهما  !
اتجهت إلى الدرج المؤدى للطابق الأسفل فوجدته يصعد للأعلى بصحبة فتاة و يتضاحكان .. تغير وجهه حينما رآها وتوقف عن الحركة بينما أكملت الفتاة طريقها بحرج بالغ ومرت بجوار "حبيبة" تبتسم ابتسامة مقتضبة متوترة .. تمالك نفسه سريعا ً وصعد ببطء حتى وقف أمامها ثم ابتسم قائلا ً:
- إيه رايحة على فين كده
عقدت ذراعيها فوق صدرها وهى تقول:
- بتمشى شوية
اقترب منها وأحاط كتفيها بذراعه متسائلا ً:
- مش هتسألينى مين اللى كانت معايا ؟
ابعدت ذراعه عنها وهى تلتفت إليه مندهشة.. ها هويستعد لتأليف كذبة جديدة متخذا طريقة الهجوم خير وسيلة للدفاع منهجا لحياته دوما وقالت على مهل:
- هسأل على مين ولا مين واضح أن الموضوع كبير وأنا مكنتش واخده بالى
عقد جبينه متفحصا ً كلماتها المغلفة بالشك والتى تنبأ عن معلومات قد وصلتها للتو .. دس كفيه فى جيبيى بنطاله ورفع رأسه ينظر إليها وهو يقول بجدية :
- "حبيبة" أنا عشت حياة صعبة أوى ..أحيانا ً كتير أنا نفسى مبقدرش أفهم تصرفاتى لكن كل اللى أقدر أقولهولك إنى إتقدمتلك علشان عندى الرغبة إنى أبدأ حياتى من جديد .. حياة نضيفة
إلتفتت إليه تتأمل وجهه الشارد بعيدا وعينيه الغارقتان فى الحزن وهو يستطرد:
 - ساعدينى علشان أقدر أرجع "خالد" بتاع زمان .. إنتى بالنسبالى الأمل اللى هايبقى قدامى دايما يفكرنى بالنقاء اللى فقدته غصب عنى واللى بحن له كل ما أشوفك
ثم تناول كفيها بين يديه وعاد يردف بحزن عميق :
- يعنى إنتى بالنسبالى رمز للحنين
تأملت عينيه الحزينة الشاردة التى ألجمتها ولم تستطع أن تتفوه بأكثر من هذا بل لم تستطع أن تفصح له عن ما سمعته عنه من "راغب" منذ قليل وكأنها ترى صورة جديدة لـ"خالد" لم ترها من قبل ..
أومأت برأسها بتفهم وهى تسحب يديها من بين يديه وهى تبتسم ابتسامة خاوية وتركته يخرج هاتفه ويجيب رنينه المتواصل الذى قطع عليه حزنه وحديثه معها ... عادت إليه الإبتسامة وهو يتحدث إلى عمته فى الهاتف ..  أنهى محادثته وهو يضع الهاتف بجيب سترته وقد استعاد مرحه أيضا ً وهو يقول:
- عمتو قالبة عليا الدنيا تعالى ندخل نشوفها
ابتعدت خطوات للخلف قائلة:
- لا عاوزه أشم هوا شوية  الدنيا جوه خنقة .. أدخل أنت
إتخذت ركنا ً بعيدا عن الصخب الذى عاد مجددا بعد أن تركها ودلف داخل القاعة واستندت براحتيها إلى حافة السور وهى تنظر إلى مياه النيل حائرة .. إنه رجل حزين للغاية يصارع نفسه أحيانا ويتصرف عكس ما يؤمن به وما يريده ربما بإرادته أو رغما ً عنه ! ... يسعى لأشياء لا يريدها . . فقط يريد الحصول عليها هل يحاول تعويض نقص ما ؟! .. تشعر معه بمشاعر متناقضة دائما .. عندما يسكب مشاعره أمامها ويخبرها كم يحبها تشعر بصدقه ولكن فى نفس اللحظة يراودها شعور بأن تلك الكلمات ليست لها !.. ترى كلماته تتجسد أمامها منسابة من بين شفتيه بتلقائية شديدة وقبل أن تصل إليها تهرب بعيدا ً تهرب لأخرى ! ..
لم يناديها ولم تسمع خطواته الهادئة نحوها ولكن شيئا ً ما جعلها تلتفت ربما شعرت بالدفء المفاجىء التى تشعر به دوما ً عند حضوره ! .. هى المرة الأولى التى ينفرد بها وحدهما بعد لقائهما فى المشفى منذ أقل من عام .. هادرة هى أمواج البحر فى عينيه .. هل يضم العالم إلى صدره أم فقط يعقد ذراعيه ! ... هل سمعتُ الآن زفـرة  أم أراد حرقى برئتيه ؟! ..
- واقفة لوحدك ليه ؟
هكذا أخرجها من شرودها فيه ليُعيدها بكلماته الثلاث إليه ! فقالت :
- ولا حاجة باشم هوا بعيد عن الدوشة
ثم تساءلت بتمهل :
- وإنت بقى سايب الناس وجاى هنا ليه ؟
بدون تفكير أجاب:
- بادور عليكى
كيف يمكن أن تشعر بسخونة بوجهها والهواء يلفحها من كل جانب ؟ ولكن هذا ما حدث ! .. صمتت لعلها تستعيد قدرتها على النطق مرة أخرى أو يرحمها وينصرف .. ولكنه لم يفعل .. أشاحت بوجهها بعيدا ً لعله يرأف بها .. صمته ونظراته جعلا اللحظات تمر عليها كالدهر وأخيرا ً قرر إطلاق سراحها وزفر بقوة وهو يستدير لينصرف قائلا ً :
- يالا ادخلى جوا الدنيا هنا برد عليكى
بداخلها حيرة كبيرة وأسئلة متخبطة لا يملك أحد الإجابة عليها سواه والفرصة الآن سانحة أمامها وربما لن تعوض ثانية ولابد من اقتناصها سريعا ً .. وعلى غير عادتها تحرك لسانها ونادته قبل أن يسبقها التردد والرهبة كما يحدث لها دوما ً عند المواجهة :
- "حسام"
هل نادتنى ؟ هل خرج اسمى من بين شفتيها بتلك الرقة ؟ هل أرادت سحق أعصابى وجوارحى فقررت أن تنادينى ؟! .. عاد إليها بجسده كله دفعة واحدة وبلهفة كبيرة مجيبا ً .. فركت كفيها مضطربة وهى تسأله:
- لما "خالد" قال فى العربية إنك كنت بتغرق السنة اللى فاتت فى نفس يوم عيد ميلادى كنت فى اسكندرية فعلا ً ولا هنا فى القاهرة ؟
اقترب منها خطوات دون أن يشعر وهو يعقد جبينه بقوة متسائلا ً:
- هاتفرق إيه هنا ولا فى اسكندرية ؟
قالت بصوت أشبه بالبكاء :
- هاتفرق كتير .. لأنى يوم عيد ميلادى وقعت فى الميه وكنت باغرق  
ثم تابعت وكل خلجة من جسدها ترتعش :
- وشفتك تحت المية ورغم إنك كنت بتغرق لكن أنقذتنى وأنا كمان أنقذتك ولما فوقت من الغيبوبة وعرفت إن راجل مراكبى هو اللى أنقذنى قولت يبقى كنت بحلم وفضلت مقتنعة بكدة لحد ما عرفت إنك غرقت فعلا فى نفس اليوم لكن فى اسكندرية .. طب إزاى ؟
خطى آخر خطوة كانت تفصل بينهما وأمسكها من مرفقيها هاتفا ً :
- بتقولى إيه ؟ ! .. مستحيل !! .. أنا كمان شفتك تحت المية ورفعتك بإيدى وشدتينى معاكِ بس مش هنا .. فى اسكندرية !!
أنهى كلماته وهو يلتفت إلى المياه وقد قطب جبينه بشدة حتى كادا حاجبيه أن يلتقيان وضغط مرفقيها أكثر دون وعى وهو يردد :
- إزاى .. مستحيل
وعاد يلتفت إليها وقد لمعت عينيه متذكرا ً وهو يقول:
- فاكره يوم الحادثة لما أخدوكى فى عربيه .. أنا قبلها ماكنش عندى أى سبب يخلينى أروح المكان ده لكن لقيت نفسى فجأة ماشى بالعربية لحد ما وصلت هناك ولما شفت عربية سايبة الطريق السريع وبتدخل فى الرمل مكنتش أعرف إنك جواها ولا حتى شفت إن فى واحدة ركبت معاهم لكن لقيت نفسى ماشى وراهم من غير سبب كان فى حاجه بتشدنى وراهم إيه هى مش عارف .. لحد ما سمعت صوتك وانتى بتصرخى ولما ضربت نار وجريوا بعربيتهم وشوفتك واقعة على الأرض حصلى ذهول .. إفتكرتك وافتكرت ملامحك اللى شفتها تحت المية وأنا باغرق وكنت فاكرك وهم زى ما إنتى افتكرتينى بالظبط !..
كان جسدها ينتفض بقوة بين يديه وبدأت دموعها فى الإنهمار .. وصدرها يعلو ويهبط بجنون عندما نظر إليها متأملا ً بعمق وكأنه يستعد للقفز بداخل مقلتيها وهو يقول بصوت متهدج :
 - أنا بقدر أقرا أفكارك واحس بالمكان اللى موجوده فيه .. ومتأكد ان انتى كمان كده .. إحنا فى بينا ترابط روحى وذهنى قوى ومن نوع خاص جداً  يا "حبيبة" مش عارف حصل بينا أمتى و ازاى لكن حصل  .. إنتى مينفعش تبقى ملك حد غيرى أنتى بتاعتى .. الوضع ده لازم يتصلح وحالاً ! . 

الجمعة، 2 مايو 2014

روايــة حكايــــة حبيبـــة .. الفصل السابع

روايـــــة حكايــــة حبيبـــــة

الفصل السابع


لم يستطع الذهاب إلى المنزل فى تلك الليلة كانت بداخله طاقة قصوى تدعوه لتحطيم كل ما يقابله توجه على الفور إلى صالة الألعاب الرياضية .. صعد قفزًا ونزع ملابسه بعنف ثم جلس إلى إحدى أجهزة رفع الأثقال وأخذ يتدرب بشراسة كبيرة وعينين جامدتين حتى نفدت قواه تماما ً وترك جسده يهوى إلى الأرض منهكا ً بشدة ... أغمض عينيه وهو يلهث وصدره يعلو ويهبط بجنون حتى استقر أخيرا ً وهدأ وراح فى سُبات عميق .  
أما هناك أسفل منزلها أوقف "خالد" سيارته واعتدل ليصبح فى مواجهتها ثم قال معاتبا ً:
- على فكره أنا زعلان منك من ساعة ما الفرح خلص وخرجنا سوا لحد دلوقتى ماتكلمتيش خالص
قالت بارتباك :
- معلش أصل أنا محتاجة وقت علشان أتعود عليك أكتر وأعرف أتكلم معاك
سحب كفها وقربها من شفتيه وقبلها برقة وهو يراقب ملامح وجهها المضطرب قائلا ً:
- أنا هخليكى تاخدى عليا أسرع مما تتخيلى
بيدها الأخرى أمسكت مقبض الباب وفتحته وهى تسحب يدها الساكنة فى راحته قائلة باضطراب:
- طيب أنا هاطلع بقى أصلى مرهقة أوى وعاوزة أنام
وقبل أن يعترض أو يتقدم أكثر كانت قد ترجلت من السيارة فلحق بها وسار بجوارها حتى عبرا حديقة المنزل الصغيرة ودلفا من البوابة الداخلية فتقدمت هى وضغطت أزرار المصعد بتوتر شديد متحاشية النظر إليه حتى استقر المصعد أمامهما وقبل أن تستقله أحاط خصرها بذراعه فى محاولةً أخيرة لتوديعها ولكنها أبعدته برفق معتذرة وهربت داخل المصعد على الفور واضعة كلتا يديها على صدرها فى محاولة ضعيفة لتهدئة أنفاسها المتلاحقة
بمجرد أن دلفت إلى المنزل واجهت ابتسامة " أمل " العريضة والتى تقول بحماس وفرحة حقيقية:
- ألف مبروك يا آنسة "حبيبة"
ربتت "حبيبة" على كتفها بابتسامة مرهقة قائلة:
- الله يبارك فيكى يا "أمل"
ثم تلفتت بعينيها فى المكان متسائلةً:
- بابا وماما ناموا ولا أيه
أومأت "أمل" برأسها وهى تقول:
- أيوا " فريدة " هانم و"سليم" بيه ناموا والآنسة "سلمى" بتذاكر فى أوضتها
ابتسمت بوهن وهى تتركها متجهة إلى غرفتها ..أغلقتها خلفها وألقت بجسدها بإنهاك شديد فوق فراشها .. أغمضت عينيها بعد محاولة فاشلة للنهوض مرة أخرى لاستبدال ملابسها . وشعرت برعشة خفيفة تسرى فى أوصالها عندما تذكرت محاولة "خالد" تقبيلها فى الأسفل وتذكرت عينيه الغاضبتين عندما دفعته برفق ثم زفرت بقوة لعلها تُطفىء تلك الشعلة المتقدة بصدرها الساخطة على كل شىء والتى تلهب حيرتها عقلها وتلسع بألسنتها قلبها   ..
" لماذا رضخت لعائلتى ووافقتُ على عقد قرانى بهذه السرعة لماذا أنا دائما طوع الجميع يتلاعبون بى كيف شاؤوا .. يضعوننى حيث أرادوا .. لماذا لم أرفض من البداية ... إلى متى سأظل مترددة وجبانة لا أكادُ أحسمُ أمرًا  لا أعرفُ للمواجهة طريق .. لم أشعر مع "خالد" بأية توافق ومع ذلك خضعت لرأيهم ووافقت على عقد القران ومازلت لا أشعر تجاهه بشىء يُذكر فكيف سأحث السير معه فى طريق حياتنا القادمة " .
*************
أمسك بمقبض باب غرفته وقبل أن يديره سمعها تناديه بغضب يعرف نبرته جيدا ً فى صوتها فاستدار ببطء وهو يحمل سترته بإهمال خلف كتفه وبوجه عابس أجاب :
- صباح الخير يا ماما
قالت وهى تفرك كفيها بضيق:
- يابرودك يا أخى بقى أنا طول الليل عماله أتصل بيك وإنت ولا هنا لما حرقتلى أعصابى وجاى تقولى صباح الخير يا ماما
أغمض عينيه وهو يزفر بقوة ويشيح بوجهه محاولا ً إيقاف بعض الغليان الذى يسرى بداخله والسيطرة على أعصابه وهو يقول منفعلا ً:
- هو أنا عيل صغير هاتقلقى عليه
نظرت إليه بدهشة غير مستوعبة الطريقة التى يحدثها بها لأول مرة واقتربت منه ودفعته فى ذراعه بقوة لا تتناسب مع رقتها هاتفة فى وجهه:
- اتكلم كويس يا ولد مش كفاية اختفيت من  فرح "خالد" ومشيت وسبتنا من غير ما تقولنا رايح فين .. مابقاش عندك أى إحساس بالمسؤلية خالص للدرجادى يا "حسام" 
دفع باب غرفته بعنف ودلف للداخل وهو يصيح :
- هو فى ايه بالظبط .. كل حاجه "خالد" معندكيش غير "خالد" .. لازم الكون كله يلف حواليه ويلبيله طلباته يا مدام " نور"
عقدت حاجبيها وهى تحدق فيه مشدوهة مما ترى وتسمع .. إنه ليس فى حالته الطبيعية أبدا ً .. ربما يكون مخمورا ً أو مخدرا ً .. استدارت فجأة عندما سمعت وقع أقدام قريبة ثم أطل وجه "خالد" الناعس عليهما ويقول وهو يفرك إحدى عينيه من أثر النوم :
- أنا سامع حد بيجيب سيرتى .. بتتخانقوا ليه عالصبح
لم يجد ردا ً من كلاهما فتقدم بضع خطوات للداخل ثم وجه سبابته باتجاه "حسام" وهو يقول معاتبا :
- كده برضه تسيبنى وتمشى يوم فرحى قصرت رقبتى يا أخى قدام مراتى
لم يعلم "خالد" أنه فى كل كلمة ينطقها يضغط بقسوة على جرح مازال مفتوحا بل ومازال ينزف لذلك انتفض متفاجئا ً عندما وجده يصرخ وهو يضرب سترته بشراسة فوق حافة فراشه قائلا ً :
- أنا مش الكلب بتاعك علشان تفضل رابطنى بسلسلة جانبك ولا أنت افتكرتنى الجارد بتاعك بصحيح
أنهى عبارته وهو يستدير ويوجه حديثه لـوالدته قائلا :
- لو سمحتى يا ماما أنا جاى تعبان وعاوز أنام
تبادلت نظرات الدهشة والحيرة مع " خالد" الذى صمت تماما فهو يعلم صديقه عندما يغضب ولابد من أنه الآن غاضب وبشدة .. أشار إليها برأسه وهو يضع راحته على كتفها يحثها على الخروج معه قائلا ً :
- تعالى يا عمتو دلوقتى من فضلك سيبيه يرتاح شويه
أغلق " خالد" الباب خلفهما وسار بها حتى غرفة المعيشة .. أجلسها وهو يتفحص وجهها محاولا ً الإطمئنان عليها ثم جلس بقربها متسائلا ً:
- إيه الحكاية يا عمتو
التفتت إليه غير مصدقة ما حدث وهى تقول بعينين حائرتين :
- والله يابنى منا عارفة ماله أول مرة يكلمنى كده ..
ثم فكرت قليلا وقبل أن تتكلم تراجعت عن ما يدور بخاطرها وهى تقول بتردد:
- لا مش معقول !! ..
نظر إليها مستفهما ً فقالت متسائلة:
- تفتكر يكون سهر ليلة امبارح مع حد بيشرب مثلا ًولا بياخد مخدرات وعرضوا عليه يشرب معاهم ؟
هز "خالد" رأسه نافيا ً بقوة وهو يجيبها دون تردد:
- لالا طبعا يا عمتو "حسام " راجل رياضى وبيحافظ على نفسه جدا
ثم اندفع فى الحديث دون شعور:
- إذا كان أنا صاحبه وابن خاله ومابيرضاش ياخد منـ ..
بتر عبارته عندما انتبه إلى عينيها المتسعتان عن آخرهما بذهول فقال موضحا ً على الفور:
- لا يا عمتو متفهمنيش غلط أنا أقصد يعنى السجاير العاديه مبيرضاش ياخدها منى
زفرت بقوة لتخرج كمية الإنفعالات الكثيرة بداخل صدرها ثم تمتمت :
- ربنا يهديه
تنفس الصعداء وابتلع ريقة بصعوبة فلقد كاد أن يُهلك نفسه بنفسهِ فأراد أن يدير دفة الحوار باتجاه آخر فقال :
- بقولك إيه يا عمتو إيه رأيك أعزم "حبيبة" تتغدى معانا هنا يوم الجمعة ؟
ضحكت ساخرة وقالت :
- قصدك على الفطار
قطب حاجبيه بدون فهم فتابعت :
- يوم الجمعه رمضان يا "خالد" 
رفع حاجبيه مندهشا ً وهو يعبث بشعره قائلا ً :
- والله .. بسرعة كده ؟ .. ولا حد قالى  ! !
************
لم يستطع أن يهرب إلى النوم فكلما هرب إليه فر منه إلى غير رجعة .. ظل مستيقظا ً يتقلب في فراشة أكثر من ثلاث ساعات تأكل الغيرة قلبه تارة وتُعطى ما تبقى منها للندم ليلوكه بتلذذ بين أسنانه الحادة وفى النهاية حسم أمره وخرج من غرفته يبحث عن والدته ..
كعادتها فى تلك الساعة وجدها تجلس فى الشرفة الكبيرة بجوار حوض الزهور .. ذلك الحوض البني المُعطر بزهوره ... رفيقها كلما حزنت أو طالت حيرتها فى أمر ما وكأنها تستجلب روح صاحبه الذى أتى به هدية لها منذ سنوات قليلة قبل أن يفارق الحياة بأيام عدة وطلب منها الجلوس بقربه دائما لتتذكره كلما احتاجت إليه ..
مازال يسمع صوت والده يرن بأذنه بل بعقله وهو يقول لها مبتسما ً بحب " كل ما تحسى إنك محتاجانى تعالى اقعدى هنا " .. لمعت عيناه عندما تذكر والده الذى طالما أحبه كثيرا ً .. لقد كان يتمنى أن يكون هو وزوجته مثل أبيه وأمه متحابان إلى تلك الدرجة من القرب والحممية وكثيرا ً ما كان يُعرب عن أحلامه تلك أمامهما ولكن بطريقة مشاكسة مما يجعل والدته تنهض وهى تقول متأففة " الله يكون فى عونها " فيضحك والده ثم يضع راحته على قلبه ويقول مداعبا ً " بالعكس .. إبنك ده يوم ما يحب هيتبهدل على الآخر ميغركيش عضلاته ده من بره بس " .. ابتسم عندما وصل لتلك المحطة من الذكريات الرائعة فأوقف قطارها عند هذا الحد وتقدم ببطء لينتشلها هى الآخرى من ذكرياتها .. جلس على الأرض أسفل قدمها مباشرة وتناول كفيها بين راحتيه وقبلهما معتذرا ً وهو يقول :
- أنا آسف يا ماما أرجوكى إعذرينى أنا ماكنتش فى حالتى الطبيعية
خفضت رأسها  إليه بصمت وقرأت الندم وقد نقش حروفه بين جنبات ملامحه ثم تنفست بعمق وقالت بهدوء:
- أسفك مقبول يا "حسام" عارف ليه ؟ .. لأنى عارفة إن فى حاجة كبيرة مخرجاك عن وعيك ومش هاضغط عليك تقولى إيه هى .. لكن عارف لو طريقتك دى اتكررت معايا تانى هاعمل فيك إيه ؟
أخفض ناظريه وقال على الفور:
- اعملى فيا اللى إنتى عاوزاه .. أقولك .. إضربينى بالشوز !
رغما ً عنها ضحكت لمداعبته وهى تقول :
- بالشوز ؟
مط شفتيه واصطنع الحيرة وهو يقول مقلدا ً صوت أبيه مداعبا ً:
- منا خوفت أقولك بالجزمة تزعلى يا " نـون " وتقوليلى إيه الألفاظ دى
علت ضحكاتها الرقيقة أكثر وهى تلتفت برأسها إلى إحدى الزهرات فتستنشقها بقوة وتقول مبتسمة بحب:
- لو معملتش كده وانت بتصالحنى متبقاش ابن "مصطفى الصياد "
ابتسم برضا كبير وسعادة أكبر فلقد جعلها تضحك أخيرا ً بعد أن كان سببا ً فى غضبها وقبل كفيها مرة أخرى وهو يقول :
- يعنى خلاص راضى عنى يا جميل
أمسكته من كتفيه وأجلسته على المقعد المقابل لها وهى تقول بتهمل:
- بشرط
أومأ برأسه مبتسما ً وقال بحماس:
 - إنت تؤمر يا قمر
قالت على الفور:
- إنت قولتلى امبارح إنك موافق تخطب " هدى "
 رفع حاجبيه مستفهما ً فقالت بانفعال:
- البنت اللى شاورتلك عليها فى الفرح يا "حسام" .. لحقت تنسى ؟! .. ده أنا الصبح كلمت مامتها وحددت معاها معاد بكرة على أساس أنك ادتنى كلمة امبارح .. ولاعاوز تصغرنى مع الناس ؟
مرر أصابعه بين شعره الغزير باضطراب وهو يقول بخفوت:
- آه افتكرت
لم يكن أمامه مفر من الموافقة فلقد وضعته بين المطرقة والسندان .. وليس هذا فحسب فربما أراد أن يجمع شتات نفسه ويكبح جماح قلبه ويجبره على نسيانها على طريقة وداونى بالتى كانت هى الداءُ .
************

" بهايم .... أنا مشغل عندى شوية بهايم "
نطق "سليم" والد "حبيبة" تلك العبارة وهو يهوى إلى مقعده بداخل شركته الصغيرة ويضرب سطح مكتبه بغيظ شديد مما جعل "راغب" يقول مستفهما ً وهو يجلس على المقعد قبالته :
- فى إيه بس يا باشا .. احكيلى وكل حاجة لها عندى حل
رفع "سليم" رأسه وقد احتقنت عيناه بشدة وقال وهو يلوح بذراعيه منفعلا ً:
- لما "خالد" إتصل بيا وطلب منى معاد وعرفت أنه جاى يطلب إيد "حبيبة" بعت اللى يسأل ويطقس عنه وعن وضعه المالى .. شوية البهايم اللى مشغلهم قدمولى تقرير بيقولوا فيه إنه رجل أعمال وحيد أمه بعد أبوه وأخته ما ماتوا وهو اللى ماسك كل الحسابات والفلوس وهو اللى بيدير الشركه الكبيرة وكل حاجه فى إيدوا يعنى كل الفلوس دى هتروحله بعد ما أمه كمان تموت ده غير فلوسه هو اللى بيشغلها فى السوق
عقد "راغب" حاجبيه بعدم فهم وهو يقول:
- مش فاهم يا باشا اعذرنى
زفر "سليم " وقال حانقا ً:
- البهوات كتبولى تقرير عن واحد تانى يا "راغب" .. عن ابن عمته
مال "راغب" برأسه يمينا ً وهو ينظر إليه غير مصدق وقال متسائلا ً:
- يعنى إيه ؟ .. "خالد" وضعه المالى إيه دلوقتى ؟
عاد "سليم" بظهره يستند إلى ظهر مقعده وأغمض عينيه قائلا ً:
- كان عنده سنتر كبير رأس ماله ضخم ورثه من أبوه وبعد كام سنه صرف معظم فلوسه على الحريم والصرمحة ودلوقتى مابقاش عنده غير شقة ومحل واحد فى المول الكبير اللى قريب مننا
ضرب " راغب" جبهته بقوة وهو يقول بحسرة:
-  يعنى الفلوس بح
أشعل "سليم" لفافة تبغ واستنشق بعض سمومها ثم زفرها ببطء بعد أن ملأ بها رئتيه وقال وهو محدق فى الفراغ :
- مش الفلوس بس يا "راغب" دى أحلامى كمان فى إنى أرجع اسمى فى السوق زى زمان هى اللى بقت بح
***************
ذهب هو ووالدته و"خالد" و بصحبتهم" حبيبة" التى أصرت والدة "حسام" على حضورها للتعارف على "هدى" وأسرتها أو كما كان يظن !.. وجد نفسه يقترح بحماس أن يذهبوا جميعا فى سيارة واحدةً فلا داعى للتفرق فى سيارتين فقد يختلف بهم الطريق ويضيع أحدهم من الآخر وخصوصا ً أنهم سيذهبون إليهم للمرة الأولى .. هكذا أقنع والدته و"خالد" !! ..
لا يعلم لماذا فعل ذلك ! .. ربما أراد أن ينعم باحتلال جسدها جزءا ً من سيارته ويملأ عبقها الأجواء حوله ولو لوقت قصير .. وبالفعل قد كان ما أراد واستقلت سيارته لأول مرة وجلست خلفه مباشرة بابتسامة خلابة .. يبدو أنها هى أيضا سعيدة بذلك ! .. أو هكذا تصور هو ! .. لم يستطع أن يمنع عينيه من النظر إليها فى المرآة من وقت لآخر يخطف بعض الثوانى من عمرها فيحتفظ بها فى درج ذكرياته معها .. لم تستطع هى أن تفسر تلك النظرات المتباينة التى تختلط فيها السعادة بالعتاب .. القسوة والحنان .. الخيانة والإخلاص ..
بمجرد أن أوقف السيارة ترجل على الفور ليفتح لها الباب المجاور لها فى سرعة .. ابتسمت له باضطراب شاكرة ولكن تلك الإبتسامة لم تدم كثيرا ً.. اختفت وخفق قلبها عندما سمعته يهمس لها بضيق:
- الفستان القصير ده ميتلبسش تانى .. فاهمة
ما هذا الكائن العجيب .. من هو ليملى علي أوامره بتلك الجرأة .. وأنا كيف أسمح له بذلك ؟! ..
..ترجلت والدته من السيارة فى خفة تتناسب مع جسدها المعتدل وكذلك "خالد" وهو يعاين المكان حوله متفحصا ً ويحرك رأسه بغرور مصطنع قائلا ً:
- كويس واضح إنهم بيحاولوا يبقوا فى مستوانا ..
تعارف الجميع فى الداخل واجتعمت العائلتان فى البهو الكبير من المنزل وبعد فترة ليست بالقصيرة عالجته والدته بطلب الزواج بشكل رسمى وواضح ولقد كان من الظاهر قبول الاسرة به وترحابهم بشكل كبير رغم نبرة الغرور التى تتحدث بها والدتها دائما ً ورنة القوة والسطوة الظاهرة فى حديث والدها برغم من أنه ترك الخدمة فى صفوف الجيش منذ سنوات ولكنه مازال متشبثا ً بنياشينه وأوسمته وحديثه المتعالى بعض الشىء ..
ولكن الفتاة نفسها هادئة لا تتحدث كثيرا ً ولكنها عندما تتحدث لا تتردد فى قول ما تريد ذات شخصية قوية تتسم ببعض الجدية وربما الصرامة أحيانا ً .. محتشمة فى ملابسها عكس أختها الصغرى "سمر" المتحررة بشكل فج فى طريقتها وثوبها ونظراتها الجريئة وحديثها الناعم معه بشكل خاص ! لاحظت "حبيبة" تلك النظرات والتقط سمعها تلك النعومة فمررتها سريعا ً على الرادار الأنثوى الخاص بها لتخرج النتيجة فى النهاية مغلفة بنظرة استهجان صارمة كانت من نصيب "سمر" طيلة الجلسة والتى بادرتها هى الأخرى بنظرة أكثر حنقا وكأن اللقاء تحول بينهما إلى مباراة خاصة بالأحداق لا يلاحظها سوى عين خبير محترف أو فلنقل .. صـياد ! ..
حاول أثناء عودتهم فى السيارة أن يتملص من ميعاد الخطبة التى كانت تريده والدته ويؤجله إلى ما بعد رمضان ولكن والدته رفضت بشدة ..كاد أن يرفض ثانيةً لولا أن تدخل "خالد" مقترحا ً :
- طب أيه رأيكوا نعمل الخطوبة أول يوم العيد مع عيد ميلاد "حبيبة"
وجدت الإبتسامة الطريق أخيرا ً إلى شفتيه وهو يقول ببطء :
- هى عيد ميلادها أول يوم العيد ؟
أجابته بخفوت :
- ايوا
لا تعلم لماذا عقبت بعد ذلك وقالت :
- السنة اللى فاتت كان آخر يوم فى رمضان وعملنا الحفلة على سفينة فى النيل
حدق بها فى المرآة بشدة وتمتم منفعلا ً :
- إيــه آخر يوم فى رمضان .. وفى النيل ؟!!
تشابكت أفكاره وتصارعت حتى كادت أن تفتك ببعضها البعض لولا مقاطعة "خالد" الضاحكة وهو يقول مداعبا ً :
- يعنى تخيل هى كانت بتحتفل بعيد ميلادها هنا على النيل فى القاهرة وأنت كنت بتغرق هناك فى اسكندرية .
أحتقن وجهها واعتدلت فى جلستها ببطء محاولة ابتلاع ريقها بصعوبة تبادله التحديق والنظرات الذاهلة وهى تهمس مأخوذة :
- إيــه بيغرق ؟!!



*****
ممنوع نشر الرواية أو نسخها