الجمعة، 9 مايو 2014

روايـــة حكايـــة حبيبـــة .. الفصل الثامن

روايــــة حكايــــة حببــــة

الفصل الثامن 



الفصل الثامن


عندما يهمس القلم تنصت الأوراق وتخفق للهيب الأحبار .. نطق القلم بين أصابعها هامسا ً بحيرتها " لابد من محادثته مباشرة لأعرف كيف استطعت أن أراه فى لحظة موت كتلك التى مررت بها فى المياة .. كنت أعتقد أنه وهما ً حتى تلك اللحظة التى تفاجأت فيها أنه كان يغرق بالفعل ولكن فى الإسكندرية ! ..  هل كان حلما ً أم حقيقة ؟ يكاد رأسى أن ينفجر منذ أن رأيت الذهول بعينيه فى السيارة .. هناك شىء ما خفى  .. ولكن كيف أتحدث إليه ومتى ؟ لا .. لا .. مستحيل .. لا أعلم لماذا أخشى الحديث معه بل أخشى النظر إلى عينيه .. أشعر أنه يقرأ ما يدور بعقلى وأزعم أننى كذلك أيضا ً أستطيع قراءة أفكاره ! ..
تركت قلمها ينزلق من بين أصابعها راحلا ً ليسكن راقدا ً بين دفتى مفكرتها الخاصة ونهضت متباطئة وهى تعبث ببعض خصلات شعرها واقفة أمام المرآة الكبيرة تفكر .. " ولكن ما فائدة المواجهة الآن .. وما أهميتها ؟ ومنذ متى وأنا أسعى لحل عقدة ما تقض مضجعى ".. لمعت عينيها بإصرار واعتدلت وقفتها بجدية حاسمة " لا لن أفعل ذلك لابد وأن أتغير لتتغير حياتى بأكملها لابد من وضع النقاط فوق الحروف فى كل أمورى لن أخلف عهدى هذه المرة سأتحدث إليه لا لشىء سوى لأنى فقط أريد أن أعرف ما الأمر ليس إلا " ! .. 
مرت الأيام ولم تفى بعهدها .. كلما اقتربت خطوة تراجعت للخلف خطوات .. لم يؤرقها هذا فهو ليس جديد عليها .. وصل بها الحال لدرجة رفض كل دعوة من " نور" عمة "خالد" للإفطار فى منزلهم متحججة بحجج واهية حتى شارف شهر رمضان على الإنتهاء وانشغلت " نور" بالإستعداد لخطبة ولدها الثائر دائما "حسام" !.. خشيت من لقاؤه كثيرا ً ولو صدفة ! .. معتادة هى على تراجعها تؤثر السلامة فى الابتعاد والسكوت دوما ً هذه هى "حبيبة"
*********
استقلت "هدى" السيارة بجواره بابتسامة صغيرة بينما جلست أختها "سمر" بالمقعد الخلفى وهى تقول بمرح:
- معلش بقى هاركب معاكوا يا "حسام" أصلى بحب العربيات العالية ...
ابتسم لها  باقتضاب وهو يلقى إليها نظرة فى المرآة مرحبا ً ثم ما لبث أن رفع حاجبيه مندهشا ً وقد لمحت خبرته الطويلة فى عالم الفتيات رنة خاصة فى حديثها عندما تابعت قائلة :
- أنا أصلى بحب المغامرة أوى
حاول أن يتجاهل ذلك الشعور الغريب وهو ينطلق بسيارته ببطء حتى يسمح لسيارة والدته أن تسبقه لتكون أمامه تماما فى طريقهم لشراء "الشبكة" .. كانت والدته تصطحب معها والدة " هدى" تاركة لهما المجال للحديث منفردين ولكن "سمر" قاطعت ذلك  وأصرت على مصاحبة "هدى" و " حسام"  فى سيارته .. وفى الزحام ابتعدت سيارة والدته قليلا . لمح "حسام" مراقبة "هدى " للطريق محاولة النفاذ ببصرها بين السيارات فقال مطمئنا ً لها :
- متقلقيش هما قدامنا أنا شايفهم
التفتت إليه وهى تقول موضحة :
- أنا مش قلقانه أنا بس مش عاوزه حد فينا يسبق التانى المفروض نوصل مع بعض بالظبط
فقال متسائلا ً :
- وليه المفروض نوصل مع بعض بالظبط يعنى ؟
ابتسمت ساخرة وهى تقول :
- علشان دى الأصول فى المواقف اللى زى دى وبعدين علشان إحنا متفقين على كده ولازم كل حاجة تمشى مظبوط
رفع حاجبيه وهو يهز رأسه بسخرية قائلا :
- آاه الأصول .. تصدقى ماكنتش واخد بالى
ثم أردف متسائلا ً:
- بس إيه حكاية إنك عاوزه كل حاجة تمشى مظبوط دى ؟
اندفعت "سمر" فى الحديث قائلة بمرح :
- هى "هدى" أختى كده على طول لازم كل حاجة بمواعيد وبالثانية كمان ولازم كله يمشى مظبوط على الجدول .. نسخه من بابا فاكرة نفسها فى الجيش
أنهت عبارتها وهى تضحك  ضحكات ساخرة شاركها "حسام" إياها وهو ينظر أمامه للطريق متعجبا ً قاطعتهما "هدى" حانقة:
- وهو النظام وحش يعنى ؟ 
تركهما تتعاركان بالكلمات وكل منهما تحاول إبراز صحة منطقها وتابع سيارة والدته التى توقفت على إثر انغلاق إشارة المرور .. توقف هو الآخر خلفها لا يفصل بينهما سوى سيارة واحدة وفى الجوار بجانبهم توقفت سيارة حمراء عصرية تستقلها فتاة على درجة عالية من الجمال .. ألقى "حسام" نظرة عابرة إلى السيارة التى تنبعث منها أصوات الموسيقى صاخبة ثم عاد ببصره إلى الأمام مرة أخرى وماهى إلا ثوانى وسمع صفير منغما أطلقته "سمر" الجالسة فى الخلف ثم قالت :
- سيدى يا سيدى ده إنت بتتعاكس علنى أهو
ثم تابعت موجهة حديثها إلى "هدى" التى نظرة للسيارة الحمراء وفتاتها بفضول عندما سمعت أختها تقول :
- إلحقى يا "هدى" خطيبك بيتعاكس
 لاحظت "هدى" أن الفتاة تنظر إليه بشغف وقد رفعت نظارتها تجمع بها شعرها الثائر حول وجهها ولا تبدى اهتمام بمن ينظرون إليها .. ثم زفرت بضيق قائلة:
- تفاهة
كان معلقا ً نظارته الشمسية السوداء بين أزرار قميصه فتناولها مرتديا ً إياها فوق عينيه وهو يقول بلا مبالاة:
- لا لا لازم تتعودى على كده  ده العادى أصلا
تجاهلت "هدى" حديثه الذى أنبأها بأنه سعيد بتلك المعاكسات بل ومغرور أيضا ً بها وعندما بدأت السيارات بالحركة قالت مستفهمة :
- هو إنت لبسك جينز كده على طول ؟
ابتسم وهو يومىء برأسه مؤكدا ً :
- أيوا واحتمال ألبس جينز فى خطوبتنا كمان إيه رأيك ؟
ضحكت "سمر" والتفتت "هدى" للإتجاه الآخر تبحث عن سيارة والدته وبداخلها شعور قوى أن من ستقدم على الزواج منه برغم وسامته وجاذبيته ووضعه الإجتماعى إلا أنه مختلف تماما ً عنها وتلك الإشارات التى رأتها منذ أن استقلت السيارة بجواره ترجوها أن تتراجع فهو سيرهقها بالفعل ! ولقد شعرت بهذا من قبل ولكن والدتها أقنعتها أن باستطاعتها أن تدير دفته لصالحها وتغير من شخصيته كما يحلو لها إن تمتعت بالذكاء الكافى .. فوافقت على الإستمرار ونسيت أن من يحاول تغيير شخصية الآخر ليصبح نسخة كربونية أخرى منه .. مقدم على الوقوع فى بئر اليأس الذى لا عودة منه والذى ينتهى السقوط فيه بالإرتطام الدامى حتما ً ! ..
************
مال "خالد" إلى الأمام وقد ظهر عليه علامات الوهن والضعف وهو يقول هامسا ً :
- هى عمتى بتصلى التراويح ولا إيه كل ده بتصلى المغرب حرام أنا هموت من الجوع
مال "حسام" إلى الأمام هو الآخر متكئا ً بمرفقيه فوق المائدة بيأس:
- تفتكر هانفطر قبل العشاء ولا بعدها ؟    
ضحكت وهى مقبلة عليهما بثياب الصلاة وتقول :
- أحسن علشان بعد كده تقوموا تصلوا المغرب الأول
جذب "حسام" طبق ورق العنب من يد "خالد" بقوة وهو يقول بلهفة :
- حمد لله على السلامة يا " نـون" أنا قولت إنتى بقيتى من أولياء الله الصالحين وروحتى تصلى المغرب فى الكعبة
دقت بقبضتها على سطح المائدة وهى تقول ناهرة إياه :
- بالشوكة يا "حسام"
مط شفتيه بضيق بينما إلتهم "خالد" قطعة من اللحم كانت أمامه وهو يقول متسائلا ً:
- فيها إيه لما نفطر الأول وبعدين نصلى
تناولت كأس العصير بين أصابعها وهى تتذكر زوجها الغائب بجسده الحاضر بروحه وبذكرياته الماثلة أمامها دائما وهو يطعمها بيده بعض حبات التمر أولا ثم يأخذها لصلاة المغرب خلفه ثم يعودا إلى المائدة مرة أخرى وهو يقول براحة كبيرة مجيبا ً على سؤالها
" هى دى السنه النبوية يا نـون  " . ابتسمت كما تفعل دائما عندما تتذكره وهو يداعبها بهذا الاسم الذى أطلقه عليها بعد زواجهما مباشرة والذى كان يستخدمه ولدها دائما ليداعبها به هو الآخر مشاكساً إياها
عادت من ذكرياتها لتتابع الحديث الدائر بين "حسام وخالد " وهما يتناولا إفطارهما . ولقد كان "خالد" فى تلك اللحظة يتحدث مجيبا ً على تساؤل "حسام" قائلا :
- شوف يا سيدى .. أول مرة شوفتها كانت داخله المحل تدور على حاجات معينة
ثم شرد بعيدا ً وهو يتابع بصوت متهدج:
- أول ما شوفتها حسيت إنى شايف "حنين" الله يرحمها واقفه قدامى
ترقرق الدمع بعينى " نور" وهى تردد:
- الله يرحمها .. فعلا "حبيبة" فيها من "حنين" حاجات كتير
تابع "حسام" ملامح الحزن البادية على وجه "خالد" وتفرس فيها بعمق وهو يستطرد قائلا:
- لقيت نفسى ماشى وراها مش عارف ليه .. لحد ما عرفت طريق بيتها .. راقبتها كام يوم وسألت عنها وعن أهلها لقيتها بنت كويسة .. ماكنتش عارف أنا براقبها ليه وفجأة طقت فى دماغى فكرة الجواز مش عارف ليه برضه !
نظرت له عمته وقالت بجدية معاتبة :
- معقوله يا "خالد" يعنى السبب الوحيد اللى خلاك تتشدلها وتفكر تتجوزها إنها شبه "حنين " ؟ وانا اللى كنت فاكراك بتحبها !
ترك "خالد" المنشفة الصغيرة التى كانت ينظف بها فمه من أثر الطعام ونهض وهو يرسل تنهيدة حارة طويلة ثم قال مغيرا ً مجرى الحديث :
- المهم دلوقتى أنا هاعملها حفلة عيد ميلادها مع خطوبة "حسام" اعملوا حسابكوا على كده
*********
وكأن اليوم يتكرر وكأن العام الماضى قد أتى مرحبا ً بها ثانية مقدما ً لها ذكريات قريبة كهدية يوم ميلادها ولكن هذه المرة السفينة لم تغادر المرفأ   !.. القاعة بداخل السفينة مزدحمة للغاية والموسيقى الصاخبة تعلو من بين جنباتها .. تسطع الأضواء بلونيها الأبيض والذهبى  لتكون دائرتان مضيئتان واحدة منهما مسلطة على العروسين "هدى وحسام" وأخرى فى جزء آخر من القاعة والمخصص لحفل عيد ميلادها على "حبيبة " المبتسمة بخجل واضطراب في محاولة لتحاشى الضوء والهرب من الموقف وتصنعها الحديث مع "خالد" الذى جلس  بجوارها فوق المقعد الأحمر الوثير قائلا بعبث محاولا رفع صوته  قليلا لتسمعه :
- مكنتش أعرف إنك بتكسفى أوى كده
وبعد بداية موسيقية صاخبة هدأت الموسيقى قليلا ً وبدأ المصورون بالتقاط الصور الفوتوغرافية .. سطعت فلاشات العدسات بقوة فطغت على ابتسامة "هدى" المتعلقة بذراع " حسام" بيد وباليد الأخرى ملوحةً إلى صديقاتها مرحبة بهن .. لم يكونوا يلوحن لها فحسب بل يلتهمن بأعينهن خطيبها  الواقف بجوارها بهدوء لا يدرى أو ربما يدرى ما تفعل رجولته الطاغيه فى قلوبهن الآن .. إنها من المرات القلائل التى يرتدى فيها حُلته الكاملة وربطة العنق السوداء التى لا يطيقها كثيرا ً والتى تختلف اختلافا كبيرا مع شخصيته الجامحة .. وبعد قليل أقبل المدعويين بهدوء لتقديم التهنئة للعروسين ثم دعتهما والدة" هدى" للجلوس فى أريكتهما الخاصة والمزينة بالتُل الأبيض من الجانبين وبعد لحظات أقبل "سليم " يصافحهما ثم تنحى بـ"حسام" جانبا ً ليحدثه فى أمر هام
وفى موقع آخر كانت عائلة "حبيبة" تحيط بها هى و"خالد" لإلتقاط الصور وتقديم هدايا عيد الميلاد .. كان يحاول جاهدا ً أن يتحاشى النظر إليها وهو يحدث والدها  فكلما نظر إليها وجد بجوارها "خالد" ! .. مُمسكا ً بيدها المعلقة بذراعه بحميمية تفتك بقلبه .. ولكن يبدو أن قلبه لن يستريح ولن يهدأ فى تلك الليلة الصاخبة أبدا ً ..
مرت "نور" مبتسمة  بجوار "سليم وحسام " مرحبة برقتها المعهودة  والذى بادلها الابتسامة والتحية ثم عاد يتحدث إلى "حسام" باهتمام شديد
ثم أقبلت نحو  "حبيبة وخالد" بحماس قائلة :
- يالا علشان تباركوا لـ"حسام وهدى"
تقدمتهما وهى تتحدث ملوحة بيديها برقة وسعادة موجهة حديثها إلى "حبيبة"  :
- واضح أن باباكى يا "حبيبة" انسجم أوى مع "حسام"
ألقت "حبيبة" نظرة تجاههما فوجدت والدها يميل برأسه باتجاه " حسام " ويبدو أنهما يتحدثان حديثا خاصا ً جعلهما يبتعدان قليلا ً عن "هدى" ومن يحيطون بها  .. لم يكن من الصعب عليها فى تلك اللحظة أن تتنبأ بما يدور بينهما .. صافحه والدها بابتسامة ممتنة وهو يبتعد تاركا ً المجال لابنته وزوجها ليقدما تهانيهما للعروسين .. إحتضنه "خالد" بقوة مداعبا ً وهو يقول:
- مبروك يا وحش
اغتصب"حسام" ابتسامة صغيرة وهو يمد يده لمصافحتها وهى تقول :
- مبروك يا "حسام"
لم يستطع إلا أن يطيل النظر إلى عينيها وكأنه يسبح فى بحر مظلم يبحث فيه عن قارب للنجاة وهو يقول :
- متشكر وكل سنة وانتى طيبة
تنحنحت مضطربة وهى ترجو يدها أن تنسحب من تلك المعركة الخاسرة بداخل قبضته .. ثم اتخذت خطوة إلى اليسار لتجبره على تركها  .. قدمت تهنئتها إلى "هدى" وقبلتها قبلة صغيرة وتنحت جانبا ً تبحث عن "خالد" الذى اختفى فجأة من أمام ناظريها بمجرد أن قدم تهنئته للعروس...
وقفت تبحث عن عائلتها لعله لحق بهم فوجدت والدتها تقف بجوار عمته ووالدة " هدى" يتبادلن أطراف الحديث اقتربت منهن ووقفت مبتسمة بضجر .. لم تستمع بالحديث الذى كان يدور بينهن عن فخامة المكان وأناقته فابتعدت قليلا ً وهى تدندن بصوت خافت مع الموسيقى الهادئة التى أضافت بعض الهدوء على المكان .. لماذا كلما جمعتها مناسبة مع تلك المياه تشعر بالوحدة والاضطراب .. حتى وإن كانت هى أحد نجوم الحفل إلا إنها دائما تشعر بالوحدة والإختناق وتود لو تبتعد عن الجميع وتلجأ إلى ركن قصى ! ..
أما هذه المرة فمحاولة الهرب ستكون أكثر جدية فهى تشعر بعينيه تحيطها من كل جانب هل يحميها أم يراقبها ؟ ..  شعرت بيد توضع على ذراعها من الخلف فاستدارت لتجد أمامها "راغب" زوج أختها "نشوى" مبتسما ً وهو يمد يده بمرح إليها قائلا:
- إيه رأيك بما إن إنتى زهقانة وأنا تايه ما تيجى نرقص سوا
ابتسمت وهى تستجيب له على مضض .. لم تكن المرة الأولى التى تشعر فيها بنظرات "راغب" الثاقبة لها والتى لا تعيرها اهتمام فى كثير من الأحيان ولكنها كانت المرة الأولى التى يتدخل فيها بشئونها الخاصة متسائلا:
- مبسوطة مع "خالد" ؟
رفعت حاجبيها مندهشة وهى تقول:
- آه مبسوطة .. بتسأل ليه ؟
حرك رأسه بلا مبالاة وهو يقول:
- لا أبدا مجرد سؤال أنا بس باطمن عليكى
نظرت إليه بعناد وقالت:
- لا إطمن "خالد" إنسان كويس أوى وبيحبنى جدا
تظاهر بالإقتناع وهو يقول :
- أكيد طبعا أنا متأكد إنه بيحبك
ثم عقب مشككا ً :
- وإلا ماكنش ساب كل الستات اللى كان بيعرفها واتجوزك
تجاهل النظرات المتسائلة فى عينيها وهو يردف:
- ياريتك كنتى ظهرتى فى حياته من زمان يمكن كان حافظ على فلوسه اللى ضيعها على الستات دول
تمتمت غير مصدقة:
- ضيع فلوسه على الستات ؟ !
رسم التردد على وجهه بإتقان وهو يقول :
- إيه ده هو انتى ماكتنتيش تعرفى ؟
تركته معتذرة وابتعدت عنه تبحث عن "خالد" فى كل مكان .. ولكن لا أثر له تُرى أين ذهب ؟! خرجت من القاعة المغطاة إلى سطح السفينة المكشوف تسير وحدها بشرود .. كيف يكذب عليها ويقنعها بأنها أول فتاة بحياته وأنها هى الأولى والأخيرة فى قلبه.. كم أنا ساذجة لقد صدقته بالفعل .. لماذا يكذبون جميعا ً ؟ .. "شادى" ثم "خالد" ومن أيضا ً ؟ .. جال "حسام" بخاطرها فى تلك اللحظة ووجدت نفسها تحرك رأسها نفيا ً وأرسلت تنهيدة حارة راجية..
 وأنت أيها الوهم لا تكن كاذب مثلهما  !
اتجهت إلى الدرج المؤدى للطابق الأسفل فوجدته يصعد للأعلى بصحبة فتاة و يتضاحكان .. تغير وجهه حينما رآها وتوقف عن الحركة بينما أكملت الفتاة طريقها بحرج بالغ ومرت بجوار "حبيبة" تبتسم ابتسامة مقتضبة متوترة .. تمالك نفسه سريعا ً وصعد ببطء حتى وقف أمامها ثم ابتسم قائلا ً:
- إيه رايحة على فين كده
عقدت ذراعيها فوق صدرها وهى تقول:
- بتمشى شوية
اقترب منها وأحاط كتفيها بذراعه متسائلا ً:
- مش هتسألينى مين اللى كانت معايا ؟
ابعدت ذراعه عنها وهى تلتفت إليه مندهشة.. ها هويستعد لتأليف كذبة جديدة متخذا طريقة الهجوم خير وسيلة للدفاع منهجا لحياته دوما وقالت على مهل:
- هسأل على مين ولا مين واضح أن الموضوع كبير وأنا مكنتش واخده بالى
عقد جبينه متفحصا ً كلماتها المغلفة بالشك والتى تنبأ عن معلومات قد وصلتها للتو .. دس كفيه فى جيبيى بنطاله ورفع رأسه ينظر إليها وهو يقول بجدية :
- "حبيبة" أنا عشت حياة صعبة أوى ..أحيانا ً كتير أنا نفسى مبقدرش أفهم تصرفاتى لكن كل اللى أقدر أقولهولك إنى إتقدمتلك علشان عندى الرغبة إنى أبدأ حياتى من جديد .. حياة نضيفة
إلتفتت إليه تتأمل وجهه الشارد بعيدا وعينيه الغارقتان فى الحزن وهو يستطرد:
 - ساعدينى علشان أقدر أرجع "خالد" بتاع زمان .. إنتى بالنسبالى الأمل اللى هايبقى قدامى دايما يفكرنى بالنقاء اللى فقدته غصب عنى واللى بحن له كل ما أشوفك
ثم تناول كفيها بين يديه وعاد يردف بحزن عميق :
- يعنى إنتى بالنسبالى رمز للحنين
تأملت عينيه الحزينة الشاردة التى ألجمتها ولم تستطع أن تتفوه بأكثر من هذا بل لم تستطع أن تفصح له عن ما سمعته عنه من "راغب" منذ قليل وكأنها ترى صورة جديدة لـ"خالد" لم ترها من قبل ..
أومأت برأسها بتفهم وهى تسحب يديها من بين يديه وهى تبتسم ابتسامة خاوية وتركته يخرج هاتفه ويجيب رنينه المتواصل الذى قطع عليه حزنه وحديثه معها ... عادت إليه الإبتسامة وهو يتحدث إلى عمته فى الهاتف ..  أنهى محادثته وهو يضع الهاتف بجيب سترته وقد استعاد مرحه أيضا ً وهو يقول:
- عمتو قالبة عليا الدنيا تعالى ندخل نشوفها
ابتعدت خطوات للخلف قائلة:
- لا عاوزه أشم هوا شوية  الدنيا جوه خنقة .. أدخل أنت
إتخذت ركنا ً بعيدا عن الصخب الذى عاد مجددا بعد أن تركها ودلف داخل القاعة واستندت براحتيها إلى حافة السور وهى تنظر إلى مياه النيل حائرة .. إنه رجل حزين للغاية يصارع نفسه أحيانا ويتصرف عكس ما يؤمن به وما يريده ربما بإرادته أو رغما ً عنه ! ... يسعى لأشياء لا يريدها . . فقط يريد الحصول عليها هل يحاول تعويض نقص ما ؟! .. تشعر معه بمشاعر متناقضة دائما .. عندما يسكب مشاعره أمامها ويخبرها كم يحبها تشعر بصدقه ولكن فى نفس اللحظة يراودها شعور بأن تلك الكلمات ليست لها !.. ترى كلماته تتجسد أمامها منسابة من بين شفتيه بتلقائية شديدة وقبل أن تصل إليها تهرب بعيدا ً تهرب لأخرى ! ..
لم يناديها ولم تسمع خطواته الهادئة نحوها ولكن شيئا ً ما جعلها تلتفت ربما شعرت بالدفء المفاجىء التى تشعر به دوما ً عند حضوره ! .. هى المرة الأولى التى ينفرد بها وحدهما بعد لقائهما فى المشفى منذ أقل من عام .. هادرة هى أمواج البحر فى عينيه .. هل يضم العالم إلى صدره أم فقط يعقد ذراعيه ! ... هل سمعتُ الآن زفـرة  أم أراد حرقى برئتيه ؟! ..
- واقفة لوحدك ليه ؟
هكذا أخرجها من شرودها فيه ليُعيدها بكلماته الثلاث إليه ! فقالت :
- ولا حاجة باشم هوا بعيد عن الدوشة
ثم تساءلت بتمهل :
- وإنت بقى سايب الناس وجاى هنا ليه ؟
بدون تفكير أجاب:
- بادور عليكى
كيف يمكن أن تشعر بسخونة بوجهها والهواء يلفحها من كل جانب ؟ ولكن هذا ما حدث ! .. صمتت لعلها تستعيد قدرتها على النطق مرة أخرى أو يرحمها وينصرف .. ولكنه لم يفعل .. أشاحت بوجهها بعيدا ً لعله يرأف بها .. صمته ونظراته جعلا اللحظات تمر عليها كالدهر وأخيرا ً قرر إطلاق سراحها وزفر بقوة وهو يستدير لينصرف قائلا ً :
- يالا ادخلى جوا الدنيا هنا برد عليكى
بداخلها حيرة كبيرة وأسئلة متخبطة لا يملك أحد الإجابة عليها سواه والفرصة الآن سانحة أمامها وربما لن تعوض ثانية ولابد من اقتناصها سريعا ً .. وعلى غير عادتها تحرك لسانها ونادته قبل أن يسبقها التردد والرهبة كما يحدث لها دوما ً عند المواجهة :
- "حسام"
هل نادتنى ؟ هل خرج اسمى من بين شفتيها بتلك الرقة ؟ هل أرادت سحق أعصابى وجوارحى فقررت أن تنادينى ؟! .. عاد إليها بجسده كله دفعة واحدة وبلهفة كبيرة مجيبا ً .. فركت كفيها مضطربة وهى تسأله:
- لما "خالد" قال فى العربية إنك كنت بتغرق السنة اللى فاتت فى نفس يوم عيد ميلادى كنت فى اسكندرية فعلا ً ولا هنا فى القاهرة ؟
اقترب منها خطوات دون أن يشعر وهو يعقد جبينه بقوة متسائلا ً:
- هاتفرق إيه هنا ولا فى اسكندرية ؟
قالت بصوت أشبه بالبكاء :
- هاتفرق كتير .. لأنى يوم عيد ميلادى وقعت فى الميه وكنت باغرق  
ثم تابعت وكل خلجة من جسدها ترتعش :
- وشفتك تحت المية ورغم إنك كنت بتغرق لكن أنقذتنى وأنا كمان أنقذتك ولما فوقت من الغيبوبة وعرفت إن راجل مراكبى هو اللى أنقذنى قولت يبقى كنت بحلم وفضلت مقتنعة بكدة لحد ما عرفت إنك غرقت فعلا فى نفس اليوم لكن فى اسكندرية .. طب إزاى ؟
خطى آخر خطوة كانت تفصل بينهما وأمسكها من مرفقيها هاتفا ً :
- بتقولى إيه ؟ ! .. مستحيل !! .. أنا كمان شفتك تحت المية ورفعتك بإيدى وشدتينى معاكِ بس مش هنا .. فى اسكندرية !!
أنهى كلماته وهو يلتفت إلى المياه وقد قطب جبينه بشدة حتى كادا حاجبيه أن يلتقيان وضغط مرفقيها أكثر دون وعى وهو يردد :
- إزاى .. مستحيل
وعاد يلتفت إليها وقد لمعت عينيه متذكرا ً وهو يقول:
- فاكره يوم الحادثة لما أخدوكى فى عربيه .. أنا قبلها ماكنش عندى أى سبب يخلينى أروح المكان ده لكن لقيت نفسى فجأة ماشى بالعربية لحد ما وصلت هناك ولما شفت عربية سايبة الطريق السريع وبتدخل فى الرمل مكنتش أعرف إنك جواها ولا حتى شفت إن فى واحدة ركبت معاهم لكن لقيت نفسى ماشى وراهم من غير سبب كان فى حاجه بتشدنى وراهم إيه هى مش عارف .. لحد ما سمعت صوتك وانتى بتصرخى ولما ضربت نار وجريوا بعربيتهم وشوفتك واقعة على الأرض حصلى ذهول .. إفتكرتك وافتكرت ملامحك اللى شفتها تحت المية وأنا باغرق وكنت فاكرك وهم زى ما إنتى افتكرتينى بالظبط !..
كان جسدها ينتفض بقوة بين يديه وبدأت دموعها فى الإنهمار .. وصدرها يعلو ويهبط بجنون عندما نظر إليها متأملا ً بعمق وكأنه يستعد للقفز بداخل مقلتيها وهو يقول بصوت متهدج :
 - أنا بقدر أقرا أفكارك واحس بالمكان اللى موجوده فيه .. ومتأكد ان انتى كمان كده .. إحنا فى بينا ترابط روحى وذهنى قوى ومن نوع خاص جداً  يا "حبيبة" مش عارف حصل بينا أمتى و ازاى لكن حصل  .. إنتى مينفعش تبقى ملك حد غيرى أنتى بتاعتى .. الوضع ده لازم يتصلح وحالاً ! . 

هناك 9 تعليقات:

  1. ترابط ذهنى وروحى امممممممممم
    بتحصل ان حديشوف حد ويحف ان شافه قبل كده كتير
    لكن يشعر بالمكان وكده يعنى ان توهت بس عاجبنى
    عجبانى الفكرة جديدة

    ردحذف
  2. القصة رائعة جدااااا كالعادة يا دعاء
    دمتي مبدعة

    ردحذف
    الردود
    1. تسلمى يا شهد ربنا يكرمك وسعيده جدا برأيك

      حذف
  3. ما شاء الله ربنا يباركلك رواياتك اكثر من رائعة انا قرات كل اعمالك ومعجبة بيها جدا هو انتي بتنزلي فصل كل اسبوع

    ردحذف
  4. السلام عليكم اولا انا لسة عاملة مدونة من كام يوم وبجد لو كنت اعرف ان حضرتك بتكتبى هنا كنت اشتركت فى بلوجر من زمان بجد حضرتك من الناس والله ليها مكانة غالبة عندى وانا اعرف حضرتك من فتكات وانا حاسة ان القصة دى اكيد رواة مثل ماقبلها اكتشفت زوجى فى الاتوبيس وتحت سقف واحد دول روعة وان شا الله هكون من متباعين حضرتك هنا تقبلى مرورى

    ردحذف
  5. انا قرية كلها فعلا قصة مختلفة جدا جدا وجميلة تسلم ايدك بجد روعة وفى انتظار الحلقات الجاية

    تقبلى مرورى

    ردحذف
  6. جميله بس احنا اتعودنا في قصصك التدين والالتزام فين ده في القصه

    ردحذف
  7. أيـــــــــــــــــــــــوه بأه
    روووووعه

    ردحذف