الجمعة، 6 يونيو 2014

رواية حكايـــة حبيبـــة ... الفصل العاشر

روايــــة حكايــــة حبيبــــة


الفصل العاشر






الشوق حتى الألم .. هذا ما شعُرت به فور معرفتها بوجهتهما !.. تململت بإنزعاج فى مقعدها بالطائرة وهو يقص عليها بحماس ترتيباته التى خطط لها ليفاجأ ابن عمته بالسفر إليه هو وعروسه بل والحجز فى نفس الفندق أيضا ً .. كادت أن تصرخ برغبتها بالعودة ولكن كيف ذلك لقد حلقت الطائرة وانتهى الأمر .. لاحظ شرودها والتعاسة البادية على وجهها رغم زينتها المتقنة .. تناول كفيها بحرص وضغط عليهما معتذرا ً بهمس:
- أنا آسف على اللى حصل منى إمبارح صدقينى ماكنتش فى وعيى
توردت وجنتيها حرجا ً محتفظة بابتسامة باهتة احتلت شفتيها كلما حدثها وهى تجيبه بخفوت:
- متأكده من كده
ابتسم ممتنا ً لتفهمها وهو يعتدل مستندا ً إلى ظهر مقعده باسترخاء شديد مغمض العينين بعد أن ترك يديها تتسلل مغادرة راحتيه بهدوء .. كان حماسه شديد لتلك الرحلة فهى المرة الأولى التى يقضى فيها إجازة خاصة منذ زمن ليس بالقصير ولكن هذه المرة هو ليس وحيدا ً ليفعل ما يشاء كما يحب .. هذه المرة بصحبته عروسه الحديثه التى تزوجها بالأمس فقط .. لاشك إنه يحب تلك الرحلة لقضاء شهر عسل مميز وفى بلد مميزة ولكن لا ضير أيضا ً فى أن يختبر جاذبيته لساعات قليلة بعيدا ً عنها فلربما حظى بلحظات مميزة أيضا ً تكتب فى سجل مغامراته الحافل و فى بلد جديدة يسافر إليها لأول مرة مما يشعره بالإثارة والتحدى ولم يكن باستطاعته تركها وحدها إن لم يكن معها ما يلهيها عنه وينسيها أمره إلا صحبة "هدى وحسام "  فهل سيفعل؟!  
***
الصدمة حتى الذهول .. هذا هو ما جعله يتصلب مكانه عندما وقعت عينيه عليهما فى بهو الفندق .. نظر حوله ليتأكد من أن أحدا ً لن يلاحظ  فراره إلا أن صوت "هدى" أوقفه وهى تتأبط ذراعه بيد وتلوح بيدها الأخرى لهما .. خرج صوتها فرحا عاليا ً رغما ً عنها وهى تجذبه باتجاه المكان المخصص من البهو للاستعلامات عن الحجز وقبل أن يتفوه بكلمة سمعها "خالد" فنظر إليهما وهو يلوح بيده لهما غامزا ً بعينه لـ"حسام" زهوا ً بذكاءه ونجاح مخططه ..
لقد سمعت هى الأخرى نداء "هدى" ولكنها اختلقت حديثا ً ما مع موظفة الإستقبال حتى لا تلتفت إليهما .. لا تريد أن تقع عينيها عليه بهذا الشكل .. تريد أولا ً أن تستمع إلى صوته ثم تلتفت تدريجيا ثم تراه بشكل كامل .. شعرت فى تلك اللحظة بمدى حمقها فابتسمت رغما ً عنها ساخرة من نفسها .. أيتها البلهاء هل تظنين أنك سيغشى عليك لمجرد رؤيته دفعة واحدة ؟! .. وحتى وإن تصنعت عدم رؤيته هل تستطيع منع حواسها من الشعور به ! ..
عانقه "خالد" طويلا ً بينما رحبت بها "هدى" مقبلة إياها بسعادة كبيرة فلقد وجدت أخيرا من سيهون عليها سفرها هذا ويتحدث إليها على الأقل .. كان لابد من مصافحتها ولكنه لم يفعل إكتفى بأن أومأ برأسه بابتسامة خاوية مرحبا ً بها ..
وقفت "حبيبة" ترتب ملابسها وتعلق أثوابها الطويلة بذهن مشغول وعينين شاردتين منتظرة عودة " خالد" الذى أستأذن منها وخرج من الغرفة متعللا ً برغبته بالإنفراد بـ"حسام" قليلا ً .. طابعا ً قبلة صغيرة على وجنتها وهو يعدها بعدم تأخره ..
أبدلت ملابسها وأغلقت الستائر واستلقت فوق الفراش الوثير الذى غاص بجسدها للأسفل هو ووسائدة المريحة مما أعطاها شعور بالإحتواء والراحة .. كانت فى حاجة شديدة إلى النوم والإسترخاء بعد هذا التوتر الشديد الذى شعرت به منذ أن رأته فى البهو بالأسفل .. تململت فى الفراش قليلا ً حتى استطاعت الإستغراق فى النوم لتذهب فى أحلام أكثر توترا ً جعلتها تستيقظ سريعا ً متعرقة ..
جلست تتنفس بصوت عالى وهى تنظر حولها بقلق شديد وأخيرا ً استوعبت أنها كانت تحلم وأن "خالد" لم يحضر بعد .. من الواضح أن ليلة أمس تركت أثارها فى ذاكرتها وكانت سببا ً فى كابوس جديد رأته أثناء نومها .. تناولت هاتفها النقال ونظرت إلى الساعة فرفعت حاجبيها مندهشة .. لقد مر عليها ثلاث ساعات كاملة !  مروا كالبرق كـ ثلاث ثوان أو دقائق على الأكثر
نهضت بتكاسل لتجلس فوق المقعد المجاور للفراش وهى تضغط جانب رقبتها الأيمن براحتها وباليد الأخرى تحاول الإتصال بـ"خالد" لقد تأخر كثيرا ً وقد بدأت معدتها تتوعدها وتنذرها بصرخة قوية إن لم تستجب لهمسها وتطعمها على الفور مرت عدة دقائق أخرى تتصل بإلحاح حتى أجابها فى النهاية معتذرا ً عن تأخره :
- أنا آسف يا حبيبتى معلش الكلام خدنا شوية
أتاه صوتها خجلا ً وهى تقول بتردد:
- طيب أنا جعانه أوى
صدرت منه ضحكة قصيرة وقد أدرك خجلها من أن تطلب طعام فى الغرفة قبل أن يأتى .. ثم قال:
- طيب إجهزى وأنا هاجى أخدك كمان ساعه فى هنا مطاعم جبارة
أبتسمت وهى تنهض بحماس شديد لتستبدل ملابسها على عجلة من أمرها .. إختارت ملابس بسيطة ذات ألوان فاتحة بألوان السماء المحملة بالغيوم  وجعلت زينتها أبسط تكاد لا تُرى وعقصت شعرها خلف رأسها تاركة خصلة صغيرة وحيدة تنسدل فوق جبينها مما أعطاها مظهرا فاضت منه البساطة والإستعداد لمغامرة ما فى تلك البلاد التى وقعت فى غرامها من أول وهلة .. إنتهت من وضع لمستها الأخيرة ونظرت فى الهاتف  ..
لم تمر الساعة بعد مازال أمامها بعض الدقائق الأخرى .. قررت أن تتحرك وتنتظره فى بهو الفندق فلا داعى من تضيع الوقت فى بعض الشكليات التى لن تساهم فى إسكات الجوع الشديد الذى يضرب معدتها بضراوة .. ضغطت أزرار المصعد ثم عدلت عن الفكرة بابتسامة حماسية واتجهت إلى السلم الواسع وقررت النزول قفزا ً كما كانت تفعل أحيانا ً فى منزلها بالاسكندرية .. وعندما وصلت للأسفل وجت نفسها على بُعد خطوات من المصعد ومن "حسام" الذى كان يتحدث بضيق إلى "خالد" وقد وقفا فى إنتظار عودة المصعد إليهم مرة أخرى .. كان يتحدث إليه بصوت مرتفع ولا أحد منهما يلحظ وقوفها على بعد خطوات منهما وتستمع إلى كلمات "حسام" القليلة التى جعلتها ترتد إلى الخلف وكأنها لكمتها بقوة وهو يعنف "خالد" قائلا ً:
- والله أنت ما عندك دم  بقى سايب مراتك ورايح تتسرمح ومن أول يوم فى شهر العسل
إذن فهو لم يكن معه كما قال لها فلماذا تركها بتلك السرعة وكذب عليها .. لم تنتظر كثيرا ً فلقد جاءتها الإجابة الشافية على لسان "خالد" وهو يقول :
- متحبكهاش بقى  يا أخى دول هما يومين هشوف نفسى فيهم ولما نرجع مصر أبقى أهتم بيها يا سيدى هى هتروح فين يعنى
وصل المصعد فى تلك اللحظة واختفيا بداخله .. جرت قدميها بعيداً نحو بهو الاستقبال وجلست على أقرب مقعد صادفها تجاهد تساؤلاتها المتزاحمة برأسها .. كلمات "خالد" غير واضحة هل كان يقصد امرأة أخرى أم لا يزال يظن نفسه عازبا ً ويريد التمتع بأكبر قدر من الحرية قبل الدخول فى حياة أخرى بها ما بها من المسئوليات ولكن فى كلا الحالتين هناك مؤشر ما يشير بقوة إلى زهده فيها وعدم شغفه بها ومنذ اليوم الأول لهما معا ً ..
ثواني أخرى وأتاها رنين متواصل يصدح به هاتفها بلا توقف .. قررت عدم البوح بما سمعت منذ قليل والانتظار قليلا ً حتى تتأكد من أحد الأمرين وأجابته بهدوء :
- أنا تحت فى الريسبشن
دقيقتان ووجدته يخرج من المصعد متجه إليها وما أن وصل إليها حتى قال بقلق واضح:
- قلقتينى عليكى يا "حبيبة " مقولتيش ليه إنك هتستنينى تحت
تفحصت وجهه للحظة .. يبدو عليه القلق بالفعل هو صادق فى كلماته .. قالت بابتسامة مرحة :
- خلصت بدرى قولت أتحرك شوية فى المكان
ثم تابعت وهى تضع يدها على معدتها :
- يالا بقى أنا هموت من الجوع
ضحك وهو يمسك كفيها بحنان قائلا ً:
- حاضر والله بس استنى ثوانى زمان "حسام وهدى " نازلين
توترت وعبثت بخصلة من شعرها متسائلة :
- إيه ده هما هايجوا معانا ؟
أومأ برأسه وهو يراقب هبوط المصعد قائلا ً:
-  "حسام" يعرف البلد هنا أكتر منى وبعدين الخروجة الجماعية بتبقى لذيذة
لم يكن هناك متسع من الوقت لإثارة مناقشة تُعلن فيها رفضها لإقتراحه فما أن أنهى عبارته حتى توقف المصعد وخرج منه "حسام وهدى" وسط مجموعة صغيرة من نزلاء الفندق واتجها إليهما مباشرة .
صمتت وهى تتوجه ببصرها تجاه "هدى" وحدها مستقبلة إياها بابتسامة ودودة .. كان وجوده معها فى مكان واحد كافى لإثارة توترها وحنقها معا ً فلم تستطع أن تستمتع بالغذاء الشهى الذى وضع أمامهم فى أحد المطاعم الشهيرة القريبة من شارع الاستقلال الممتد من ميدان تقسيم أحد أشهر المناطق السياحية بالعاصمة والذى يعج بزخم دائم يوميا ً من الزوار قد يصل إلى الآلاف منهم ..
بعد الغذاء مباشرة أخذهم "حسام" فى جولة طويلة داخل الساحة بدءا ً من النصب التذكارى وحتى مركز التسوق والذى قضى على مالديهم من وقت وجهد بل وأموال أيضا ً ! وأنهاها بالترام القديم الذى أقلهم بدوره إلى برج غلتا أحد أشهر المعالم التاريخيه فى اسطنبول .
ألقت "هدى" جسدها المنهك فوق الفراش وأغمضت جفنيها بإرهاق وهى تقول مبتسمة:
- رغم أنى شوفت الأماكن دى كتير لكن استمتعت النهارده جدا
وعندما لم تتلقى إجابة فتحت عينيها فوجدته يبدل ملابسه فى وجوم شديد .. لم يسمعها منذ البداية ولذلك لم يعقب ! .. زفرت بقوة وهى تُعيد غلق عينيها مرة أخرى وهى تقول حانقة:
- اللى يشوفك وانت عمال تتكلم بره ميشوفكش وانت مبتردش حتى على كلامى
إلتفت إليها وهو يقترب من الفراش معتذرا ً:
- معلش يا "هدى" دماغى مشغولة شوية
مطت شفيها بحنق فاستند بمرفقه فوق الفراش مبتسما ً ابتسامة واسعة وهو يقول :
- طب متزعليش تحبى نروح الشط بكره ؟
***
ابتسمت وأغمضت عينيها تاركةً الهواء يعبث بشعرها ليتناثر حول وجهها فى غير ترتيب والمياه تضرب عقبيها وتُدغدغهما برقة وهى تُفتت بعض الرمال تحت قدميها .. تنفست بعمق وسعادة وهى تستنشق رائحة البحر تتغلل إلى رئتيها فتذكرها بوطنها الأول " الأسكندرية" ! وأصوات الطيور تتناغم مع هدير البحر لتكتب سيمفونية عذبة بمداد من الطبيعة الخلابة حولها .. هل نعشق الأماكن وتسكنها قلوبنا حتى وإن لم تطئها أقدامنا فى يوم من الأيام ؟! .. اقتربت "هدى" ببطء منها وقالت بمرح:
- أول ما شوفتى الميه نسيتى نفسك يا "حبيبة"
أجابتها دون أن تلتفت :
- طول عمرى بنسى نفسى قدام البحر
ثم التفتت إليها برأسها وهى تنزع نظارتها الشمسية مردفة بمرح:
- بس مبعرفش أعوم
رفعت"هدى" حاجبيها مندهشة قائلة:
- معقول ! .. اسكندرانية ومبتعرفيش تعومى
ضحكت "حبيبة" وهى ترفع كتفيها بطفولة وهى تقول:
- بلبس المايوه وبنزل فى الميه لحد وسطى بس
تبادلتا الضحكات المرحة للحظات قبل أن ينضم إليهما "خالد" ووقف بجوار "حبيبة" ثم أحاط كتفيها بذراعه وهو يقول متسائلا ً:
- مش هتنزلوا الميه ولا إيه ؟
أشارت "هدى" إلى أحد الكبائن الصغيرة موجهة حديثها إلى "حبيبة" :
- شايفة الكابينة دى اللى ورا "حسام" على طول .. ممكن تغيرى فيها براحتك متقلقيش
وقبل أن تستدير لتذهب قالت متسائلة:
- وانتى يا "هدى" مش هتغيرى
حركت "هدى" رأسها نافية وهى تقول بتلقائية:
- لاء معلش يا "حبيبة" أنا أصلى مبحبش المايوهات وبعدين أنا متعودة أقعد أقرا كتاب قدام البحر روحى انتى ..
وما أن ابتعدت خطوات قليلة حتى وجدت "خالد" يلحق بها وما أن أوقفها حتى قال بنبرة معتذرة:
- معلش يا حبيبتى هسيبك بس نص ساعة وهرجعلك على طول مش هتأخر
أمسكت ذراعه وقطبت جبينها وهى تهتف بضيق:
- تانى يا "خالد" هتسيبنى تانى وتقولى نص ساعة .. هتروح فين يا "خالد" ؟
تناول راحتيها وقبلهما فى سرعة قائلا ً :
- أنا عارف إنى غلطان بس هعمل إيه الراجل ده يدوب اتعرفت عليه امبارح وهينفعنى أوى فى شغلى .. نص ساعة بس مش هتأخر ماشى .. يالا سلام خالى بالك من نفسك
قال كلماته الأخيرة وهو يلوح لها مبتعدا ً على الفور .. نادته مرة أخرى فلم يجيبها وقد ابتعد خطوات كثيرة كافية بأن تجعله يدعى عدم سماع صوتها الذى ذهب أدراج الرياح .. أرادت أن تغسل حيرتها وضيقها بين الأمواج   ففى كل يوم وكل ساعة تكاد توقن أنها ليست عروساً تثير شغف زوجها بل بفتور وبرود يجمدها ويدفعها إلى ذاك الإحساس القاتل بعدم الثقة بكونها أنثى مستحقة أكثر من هذا بكثير .. أسرعت بها خطواتها تجاه الكابينة التى أشارت إليها "هدى" من قبل .. بدلت ملابسها سريعاً وهى تحاول ضبط أنفعالاتها وهى تصرف عن ذهنها نظرات "حسام" التى رمقتها بغضب وهى تمر بجواره وتغلق باب الكابينة بوجهة بعنف لا مبرر له  .. فتحت الباب وخطت خطوتين للخارج وقد أرتدت ملابس البحر المكونة من قطعة واحدة سوداء اللون وقد حاصرت خصرها بشال أسود شفاف تربطة إلى أحد جنبيها جعلها تظهر بشكل أكثر فتوناً وهى تخفى عينيها وما يعتمل بهما خلف نظارة سوداء قاتمة .. وقبل أن تُكمل خطوتها الثالثة شعرت بقبضته تلتف حول معصمها وبيده تدفعها للخلف باتجاه الباب مرة أخرى فشهقت وهى تلتفت إليه ..أمتزج الحنق بخوفها منه وهى ترى عينيه وقد تطاير الشرر بركانهما يلسعها وهى تسمعه يهدر كالأمواج الثائرة :
- أدخلى حالا غيرى الزفت اللى لابساه ده
وتألمت وهى تحاول تخليص معصمها المسحوق فى قبضته هاتفة بحنق:
- سيب أيدى .. وانت مالك أنت ألبس اللى انا عايزاه
بقبضته الأخرى فتح الباب ودفعها للداخل برفق وهو يشير محذراً بسبابته :
- قسماً بالله لو ما غيرتى المايوه ده لهتشوفى "حسام" تانى خالص ولا هيهمنى حد أنتى فاهمة ولا لاء
أنهى عبارته وأغلق الباب بقوة جعلتها تنتفض .. فركت معصمها وهى تنظر إلى أثر قبضته دامعة العينين .. خلعت نظارتها وقذفتها بعنف وهى تصرخ باكية وكأنه أمامها :
- انت مش وصى عليا ..إذا كان جوزى عارف وموافق وسابنى ومشى ومهاموش حاجه ..أشمعنى يعنى انت اللى هتحمينى
كان لايزال فى الخارج لم يتحرك بعد صفعه للباب وبرغم سخطه عليها إلا أن صراخها بتلك الكلمات آلمه بشدة بل لكزه بقلبة .. إنها تموء كالقطة المحبوسة تعانى إهمال صاحبها بقلة حيلة وإنكسار .. ترك الباب وعقد يديه فوق صدره وسار بشرود باتجاه "هدى" التى تمددت منذ أن تركتها "حبيبة" وانصرفت فوق أحد المقاعد الكبيرة أسفل المظلة المفتوحة أمام البحر منهمكة بالحديث فى الهاتف تنصت تارة وتضحك أخرى .. جلسه على المقعد المقابل لها واتكأ بمرفقية على فخذيه وهو ينظر إليها بتمعن شديد أربكها وجعلها تُنهى المكالمة سريعاً وهى تقول :
- طيب يا "سمر" هكلمك كمان شويه مع السلامه دلوقتى
وضعت الهاتف وألتفتت إليها متسائلة :
- فى حاجه يا "حسام" ؟
قال دون مقدمات :
- حكتيلها تفاصيل يومك زى كل مرة ؟
قطبت جبينها وهى تمط شفتيها بضجر قائلة:
- قولتلك قبل كده انا متعودة على كده من زمان يا "حسام" .. ماما معودانا نحكى معاها كل حاجه
رفع حاجبية وهو يقول ساخراً:
- واختك "سمر" معوداكى برضه تحكيلها كل حاجة ؟
أعتدلت جالسة بضيق هاتفة:
- فى ايه يا "حسام" هى أول مرة يعنى تشوفنى بحكى مع "سمر" أنا مش فاهمة انت ايه اللى مضايقك
رفع نظارته يلملم بها خصلات شعره المبتل للأعلى وضيق بين عينيه وهو يقول بنبرة منخفضة متوعدة:
- كله إلا علاقتنا الخاصة يا "هدى" .. فاهمانى طبعاً
أشاحت بوجهها مرتبكة وهى تقول بتردد وقد فهمت ما يرمى إليه بتحذيره:
- دى كانت مرة واحدة بس اللى اتكلمت فيها فى الموضوع ده
أمسك كتفها بحدة جعلتها تنظر إليه مضطربة وقال متوعداً:
- أنا حذرتك قبل كدة يا "هدى " وادينى بحذرك تانى .. فاهمة ؟
تناولت الكتاب الموضوع بجوارها واستقلت وهى تفتحه تُخفى بين أوراقه وجهها المحتقن وهى تجيب:
- فاهمة .. لو سمحت بقى سيبنى لوحدى
نهض متأففاً عائداً إلى البحر من جديد وبعد ثوان معدودة كان يُلقى بجسده بين أمواجه ويدفعه بقوة بين طياته سابحاً بضراوة إلى عمقه لعله يُطفىء بعض نيرانه وثورته التى نشبت به بعد رؤيته لها بملابس البحر الماجنة .. كلما تذكرها ضرب المياه بيديه بعنف وقوة أكبر يجبر جسده على الإنهاك وعقله على النسيان وهو موقن أنه فى تلك اللحظة يخون صديقة الذى ترك زوجته هكذا بضاعة مزجاة  .
***

وضع سماعة الهاتف قائلاً بدهشة وهو يضرب كفاً بكف :
- والله مجنون
نظرت إليه فى المرآة وهى تجفف شعرها بالمنشفة متسائلة:
- بتتكلم عن مين ؟
هتف بحنق:
- "حسام" يا ستى قفل حسابه ومشى من الفندق وهو ومراته من غير ما يقول
خفضت ذراعيها وهى لازالت ممسكة منشفتها وهى تقول بحيرة:
- مش كان لسه فاضلهم كام يوم كمان
وضع لفافته فوق المطفئة بحرص وهى مازالت مشتعلة ونهض واقفاً وهو يقول بتفكير:
- الواد ده فيه حاجه مش طبيعية .. كل يوم يبعد عنى أكتر من اليوم اللى قابله ولما بحاول أقرب منه يهرب مش عارف ليه !
عادت بوجهها إلى المرآة مرة أخرى وأخذت تمشط شعرها بصمت وكل خلجة منها تصارع الأخرى بمزيج غريب من السعادة والحزن !
***


منذ ذلك اليوم وهو يتخذ الهرب مسلكا  وطريقا له ولقد ساعدته هي علي ذلك
فباتت تتجنب حتي الصدف !
ولم يكن الأمر عسيرا  فلقد كان خبر حملها كافيا للتذرغ بتعب الحمل المعتاد لعدم حضور المناسبات التى قد تجمعهما
 ومرت شهور عدة وقرارهما بالفرار يزداد ثباتا مع ثبات جنينها حتي مضت في شهرها التاسع تنتظر وقت الفكاك والخلاص .. إلا فى أحد الأيام اضطرت إلى الإنصياع لإلحاح "نور" التى حدثتها بعتاب كبير فى الهاتف طالبة حضورها وقد اظهرت استياءا كبيرا بسبب امتناع "حبيبة" عن زيارتها
ذهبت إليها مرغمة في زيارة سريعة وجلست بين يديها معتذرة وهي تتلعثم بحرج:
- والله يا طنط الحمل تاعبني اوي وبيخاليني مش قادرة اتحرك .. حضرتك كنتى بتشوفينى تعبانه ازاى لما بتيجى تزورينا
زفرت نور وقالت بريبة:
- الكلام ده كان ممكن في الشهور اللي فاتت لكن خلاص بقى انتى قربتى تولدى
صمتت "حبيبة" لا تعلم ماذا تقول فاستطردت "نور" قائلة بإصرار:
- أنتى هتباتى معايا لحد ما "خالد" يرجع من السفر
أبتسمت "حبيبة" ساخرة وهى تقول:
-  متقلقيش عليا أصلا "خالد" مسافر على طول وانا ببات لوحدى عادى
حسمت "نور" الجدال وهى تنهض قائلة:
- مينفعش اسيبك تباتى لوحدك وانتى على وش ولادة والكلام ده مفيهوش نقاش .. أنا  هقولهم يحضروا الغدا
تابعتها "حبيبة" ببصرها متعجبة وهى تنصرف بعد أن أنهت عبارتها الآمرة رافضة للنقاش.. لقد أتعبتها تلك الأسرة كثيراً  يلقون إليها بالأومر وهى ما عليها سوى التنفيذ ولكن هذا ليس سبب دهشتها ؛ إن ما أدهشها حقاً أن ارتسمت ابتسامة جذلة فوق ثغرها فلقد اكتشفت أنها تحب خوفهم العنيف عليها إلى حد الجنون !
وعندما حان المساء أوصلتها "نور" إلى أحد غرف النوم وهى تقول :
- معلش يا "حبيبة" هتنامى فى أوضة "حسام" لحد بكره بس .. أصل التكييف اللى فى أوضة "خالد" بايظ وانا مبعرفش أغير مكان نومى
تسمرت قبضتها فوق مقبض الباب ولم تجرؤ على فتحه وساد الصمت لثوانٍ .. فهمت "نور" سبب قلقها فقالت على الفور:
- متقلقيش "حسام" من ساعة ما اتجوز مدخلش أوضته غير مرات قليلة أوى
كادت أن تعترض ولكن لسبب ما بداخلها أومأت برأسها متفهمة وهى تفتح الباب وتلج للداخل ببطء خجل .. تركتها "نور" وذهب باتجاه غرفتها وهى تقول :
- لو احتجتى حاجه متتكسفيش البيت بيتك .. تصبحى على خير
دلفت للداخل بهدوء وأغلقت الباب خلفها دون أن توصده واستدارت لتواجه غرفته وحدها .. أصطدمت أنفها برائحته تعبق المكان بعبيرها الآخاذ .. كان ذلك كافياً ليثير بداخلها مشاعر كثيرة متداخلة بين الخجل والقلق والفضول ..استلقت فوق فراشة بحركة خفيفة وكأنها تخشى أن توقظه ! .. توسدة خيالها وتلحفت بذهنها الذى أصبح فى نقاء صباح ساطع لا يشوبه غيوم ولا يعكره ضباب  رسم عقلها صورة مجسمة له..
 يقطع الغرفة ذهاباً وإياباً.. يتحرك بين جنبات الحجرة الواسعة .. يتكلم .. يضحك ..
يشاكس من حوله بابتسامته الجذابة .. ووجدت شفتاها تهمس باسمه دون وعي .
***
أنتفض معتدلاً فى جلسته فى حركة فُجائية بلا مبرر بعد أن كان مسترخى وهو يشاهد التلفاز فى غرفة المعيشة مما جعل "هدى" تعقد حاجبيها وتقول متسائلة:
- مالك يا "حسام" ؟
ألتفت إليها بعينين شاردتين دون أن يجيب فقالت مردفة:
-  مالك أتنفضت فجأة كده ليه ؟ ! .. خضتنى
نهض واقفاً وهو يلتقط سلسلة مفاتيحه من فوق الطاولة ويسرع باتجاه الباب وهو يقول :
- انا رايح عند ماما
نهضت وسارت خلفه وهى تقول مندهشة :
- فجأة كده ؟!
على عجلة من أمره أدار مقبض الباب وهو يقول :
- معلش يا "هدى " مش هتأخر
أنطلق بالسيارة مسرعاً وهو يكاد يُقسم بداخله أنه استمع إلى اسمه من بين شفتيها تناديه .. وكأنها توقظه من غفلته وتدعوه للنظر نحوها ولكنه لا يعلم لماذا يتجه إلى منزل والدته فى تلك الساعة على وجه التحديد .. هناك شىء ما يشده ويجذبه .. هناك من ينتظره ..وبشغف ! 

هناك تعليق واحد:

  1. ما شاء الله عليكى يا استاذه دعاء روووووعه بصراحه الفصل ده ونهايه مشوقه اوى ياريت حضرتك تنزلى الفصل اللى بعده بسرعه وياسلام بقى لو بقيت الروايه :D

    ردحذف