الأحد، 13 أبريل 2014

رواية حكايـــة حبيبــــة .. الفصل الخامس

روايـــة حكايـــة حبيبــــة

الفصل الخامس

وأمام ضراوة صفعات الدنيا المتوالية لا نتألم كثيرا ً من صفعات كفوف المقربين منا , إنما هي فقط تجعلنا نرتد إلى الخلف مبتعدين فى الوقت الذى نتمنى فيه الإقتراب منهم أكثر , نتمنى  لو نرتمى فى أحضانهم , تحتوينا صدورهم وقلوبهم وهمساتهم الداعمة لنا .. لذلك لم تؤلمها الصفعة التى هوت ببعض الضعف مرتطمة بوجنتيها بل ما آلمها أنها لم تجد حضن والدتها  فيه بعض المتسع لها ..
ترقرق الدمع بعينيها وهى ترى خيوط الغضب منسلة من عينين أمها وهى تجذب حقيبتها المعلقة بيدها بقوة وتفتحها لتتناول هاتفها المحمول وتشد عليه قبضتها صائحة بغضب:
- لا دخول ولا خروج ولا حتى تليفونك هيفضل معاكى .. أنا عمرى ما كنت أتصور إن بنتى أنـا .. بنت "فريدة" هانم تروح تجرى ورا صعلوك زى ده .. إتفضلى على أوضتك مش عاوزه أشوف وشك ..
أخفت وجهها خلف راحتها وهى تسرع نحو غرفتها بخطوات تقترب إلى العدو لا تعلم هل تخفى دمعها أم تتأكد أنها قد صُفعت بالفعل ... آوت إلى غرفتها وأسرعت إلى فراشها ..أغمضت عينيها وهى تبلل شفتيها بحرقة وألم .. تشعر بأنها تغلق عينيها على أشواك تنغزها بين جفنيها بلا توقف .. وألم عظامها ينخر بقوة بين مفاصلها طالبة بعض الراحة والسكينة بعد كل ما مرت به .. ولم لا قد يكون النوم بعض سُبل الهرب المريحة لذلك القلب المنهك والجسد المتهالك الذى كاد أن ينتهك هو الآخر .
***
***
كادت أن تصبح فى عزلة تامة لولا أن أسرعت بها الأيام وإقتربت مواعيد إختبارات الجامعة .. حاولت أن تتواصل مع إحدى صديقاتها المقربات عن طريق الهاتف الأرضى وإنغمست قليلا بين دفتى كُتبها خائضة فى مضمار ( الهام و المقرر والملغى ) متناسية ما حدث لها فى تلك المدينة القاهرة لها دائما وما تبعها بعد ذلك فى الإسكندرية فى محاولة مستمية فى أن تطوى ذكرياتها طيا ً غير مزعج لا يترك خلفه آثار واضحة على شخصيتها التى تميل إلى البساطة والتصالح مع الذات ومع من حولها ..
وفى نهاية آخر يوم من أيام الإختبارات وقفت بصحبة صديقتها المقربة وقد إستندت صديقتها إلى سيارتها الحمراء وقالت بسعادة:
- بجد مش مصدقة إننا خلصنا إمتحانات
رفعت "حبيبة" نظارتها الشمسية وهى تلتفت إليها معقبة:
- قصدك خلصنا الكلية خلاص
فرقعت صديقتها بإصبعيها وهى تقول بمرح:
- وبالمناسبة الحلوه دى هافسحك فسحة النهاردة عمرك ما حلمتى بيها

أنهت عبارتها وهى تفتح حقيبتها مستطردة :

- هى فلوس أبوكى دى مش هتخلى عندها دم وتجيبلك عربية يالا إركبى على ما أشوف مين بيتصل

مطت "حبيبة" شفتيها بعدم رضا وهى تلوح بيدها بضجر قائلة :

- قولتلك قبل كده مليون مره مبحبش السواقه ..أعصابى خفيفه وبعدين مالها يعنى التاكسيات

 أشارت إلى "حبيبة" وهى تقول بدهشة:
- إستنى ده رقم مامتك هو إنتى موبايلك مش معاكى برضه ولا إيه
زاغت نظراتها وهى تنظر إلى صديقتها لا تعلم بماذا تجيب ثم قالت بإرتباك :
- مش عارفه بنساه كتير ليه كدة الأيام دى
صمتت وهى تستمع إلى صديقتها تحدث والدتها لثوانى ثم تناولت الهاتف من يدها ووضعته على أذنها بإرتباك قائلة:
- أيوا يا ماما ..
صمتت قليلا ً تستمع إلى حديث والدتها وما بين حاجبيها يضيق أكثر فأكثر وهى تقول بخفوت حائرة:
- فجأة كدة .. طب ليه ؟
لم تجيبها والدتها إجابة شافية فأومات برأسها بدهشة وإضطراب وهى تقول :
- حاضر يا ماما  ربع ساعة وهاكون عندك
أنهت الحديث مع والدتها ومدت يدها بالهاتف إلى صديقتها وهى تنازع الحيرة والدهشة نزاعا ً شديدا ً قائلة ببطء:
- ماما عاوزانى حالا ً يا " ندى"
مطت " ندى" شفتيها قائلة:
- ليه فى حاجة ؟
نظرت لها نظرة طويلة حائرة ثم قالت غير مصدقة:
- فجأة كدة قرروا نسيب إسكندرية !
***
عادت إلى منزلها لتجمع أشيائها لا تعلم ماذا تفعل فبرغم أن تلك الغرفة شاهدة على ذكريات أليمة إلا أنها تعنى الكثير لها ففيها ترعرعت وفيها عايشت أحلامها ومستقبلها ومكتبها الصغير الذى كانت تجلس خلفه تدون الأحداث الغريبة التى تمر بها والمشاعر الغير مفهومة التى تشعر بها أحيانا ً .. كانت تود لو تحمل معها تلك الغرفة الوردية بكل تفاصيلها إلى القاهرة فكل زاوية فيها شاهدة على أيامها ولكن منذ متى وأحداً يستجيب لمتطلباتها أو يشعر بما تحتاجه تذكرت حديثها الواهى مع صديقتها منذ قليل عن السيارة ..أنه نفس المبرر الذى تقوله للجميع عندما يسألونها لماذا لا تمتك واحدة وهى من هى ! بالفعل ليس لديها قوة أعصاب تؤهلها للقيادة ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد ! .. وقفت فى منتصف الغرفة حائرة تنظر إلى الدُمى المتراكمة فوق فراشها .. إنها جميعاً مفضلة لديها لكل دُمية منهم ذكرى جميلة مع أحدى صديقاتها فى مراحل عمرها المختلفة .. حاولت كبح جماح رغبتها فى جمع المزيد منهم  فأوامر والدتها كانت محددة وواضحة والتوتر والعصبية هما السائدان بين أرجاء المنزل  .. ولم تتبين الكثير من الأسباب لهذه النقلة الكبيرة والغير متوقعة على الإطلاق ولكنها علمت أهم تلك الأسباب والذى كان سببا ً رئيسيا ً لما يحدث ..
إنها تلك الأزمة المالية التى عصفت بأركان عمل أبيها عصفا ً شديدا ً كاد أن يهز أركان سمعته كرجل أعمال بارز وبدأت الديون تلاحقه يوما ً بعد الآخر هو وزوج إبنته وشريكه فى كل شىء ..
مما إضطره إلى اللجوء إلى مكان آخر بعيد يستطيع من خلاله أن يتوازن من جديد ويرمم تلك الصدوع كما نصحه الكثير من أصدقاءه فى القاهرة  بل وعرضوا عليه فتح آفاق جديدة له هناك بجوارهم .. ولحسن الحظ أنه كان يمتلك هناك بيتا ً جيدا ً فى مكان راقِ للغاية ..
جمع عائلته بالكامل ورحل إليها تاركا ً مدينته الساحلية بكل ما فيها .. عادت إلى القاهرة للمرة الثالثة وقلبها يرجف .. ياترى ماذا تخبئين لى هذه المرة أيتها الظالمة .. تركت مدينتى وذكرياتى وطفولتى وأحب الأماكن إلى قلبى من أجل أن آتيكِ وأنتِ التى شاهدت فيكِ ما شاهدت وكرهت فيكِ ما كرهت .. إنها نفس الأعمدة المتلاحقة نفس الصحراء وكثبان الرمال الخاوية المميتة إنه نفس الطريق الذى سقيته من قبل بدموعى ذهابا ً وعدتُ منه بنصف قلب ونصف عقل وحلم تجسد أمامى وأصبح حقيقة ! .. فإلى أين تأخذيننى هذه المرة
ربما قد أحبت هذا المنزل الجديد عليها وربما لو كانت ستحبه أكثر لو لم يكن يقبع فى تلك المدينة التى لا تنام .. كانت غرفتها فيه أشبه بغرفتها فى منزلهم القديم فى الإسكندرية إلا أنها كانت أكثر إتساعا ً وأكثر رفاهية .. المنزل مكون من ثلاث طوابق تحيطهم حديقة من ثلاث جهات .. سيُجهز الطابق الأول للشركة الجديدة التى سيعيد من خلالها والدها أمجاده وثروته وسيكون الطابق الثانى لأختها " نشوى" وزوجها "راغب" أما الطابق الثالث فستقطن فيه مع والدتها ووالدها وأختها الصغرى "سلمى" التى حصلت على التقدير التى كانت تتمناه وتحلم به فى المرحلة الثانوية ولم يكن يشغلها كثيرا ً أمر إنتقالهم إلى القاهرة بل كل ما كان يشغلها هو كلية " صيدلة " وفقط فلقد حققت حلمها بالإلتحاق بها ولا يعنيها بعد ذلك أي شىء ..
***
- " الرقم المطلوب ربما يكون مغلقا ً أو غير متاح "
زفر بقوة وهو يطرق بأصابعه بضيق شديد على سطح الطاولة التى يستـند عليها بمرفقيه متمتما ً بحيرة :
- برضه مغلق
شعر بمن وضع يده على كتفه من الخلف ممازحا ً:
- هو مين ده اللى مغلق
إلتفت "حسام" إلى مُحدثه بضجر واضح قائلا ً:
- مالكش دعوه يا عم "خالد"
إقتربت منهما برزانة ووقار وجذبت إحدى المقاعد حول الطاولة جالسة ببطء وهى تقول بإستنكار شديد:
- كل اللى يسألك تقوله مالكش دعوة حتى " خالد " كمان .. لا ده إنت حالتك بقت صعبة أوى يا "حسام"
جلس "خالد" وهو يقول بشغف :
- إيه ده .. ده الموضوع بجد بقى .. يعنى عمتو ليها حق تشتكيلى منك
نظر "حسام" إليه وعقب مستنكرا ً:
- بقى في واحد طول بعرض داخل على التلاتين يقول عمتو
ضحك "خالد" بجـذل بالغ وقال وهو يلوح بيديه:
- إنت فاكرنى شوارعى زيك ولا إيه يا فان دام
زفر للمرة الثانية وهو يضرب راحته بقبضته الأخرى موجها ً حديثه إلى والدته :
- عاجبك كدة يا ماما مالقتيش غير الهايف ده وتشتكينى ليه
أسندت ذقنها إلى قبضتها وهى تنظر إليه متفحصة :
- أعملك إيه حالك مش عاجبنى بقالك كام يوم  .. وبعدين ده إبن خالك الله يرحمه وصاحبك هو أنا إشتكيتك لحد غريب
تناول"خالد" الهاتف من أمام"حسام" وأخذ يبحث فيه بفضول وهو يقول :
- ولا إشتكيتك ليا ولا حاجة يا وحش .. عمتو بس شايفاك بالك مشغول وعاوزه تطمن عليك مش أكتر
جذب "حسام" الهاتف وتناول سلسلة مفاتيحه ونهض وهو يلقى عبارته الأخيرة قبل أن يغادر:
- ولا بالى مشغول ولا حاجة إطمنوا مافيش حاجة .. أنا رايح الجيم
إستوقفه "خالد" قائلا ً بضيق :
- كمان ناسى معادنا النهاردة 
عقد "حسام" بين حاجبيه محاولا ً التذكر وقال متسائلا ً :
- معاد إيه ؟
زفر "خالد" وقال حانقا ً:
- هو أنا مش قولتلك يابنى إنت .. إنى معجب بواحدة وحددت ميعاد مع أهلها علشان أتقدملها
إبتسم "حسام" ساخرا ً وقال:
- وأنا هافتكر مين ولا مين ما أنت كل يوم تطلعلنا فى الموال ده مع كل واحدة شوية وفى الآخر بتفركش
تدخلت والدته فى الحديث قائلة بثقة:
- لا المرة دى شكله مصمم بجد
هز رأسه يمنة ويسرة متعجبا ً وقال وهو يقطع الممر إلى باب الشقة :
- يا ماما هو أنتى مابتحرميش كل مره يضحك عليكى كدة وبعدين ترجعى تقولى مش هادخله فى حاجه تانى وبرضه بتدخلى مفيش فايدة
خرج وتركهم وقبل أن يغلق الباب خلفه شعر بـ"خالد" يتمسك بمقبض الباب من الداخل ليبقه مفتوحا وإشرأب برأسه للخارج وهو يغمز بإحدى عينيه بمكر:
- مين دى اللى شغلت "حسام الصياد" بجلالة قدره للدرجادى  ؟
إبتسم "حسام" إبتسامة واسعة وهو يدفع رأس "خالد" للداخل قائلا :
- يا أخى ده أنت غتيت أوى
أغلق الباب وإنطلق وقد عزم على قطع تلك المسافات اللعينة التى تفصل مدينتيهما عن بعضهما البعض .. بينما ينظران إلى بعضهما البعض عاد "خالد" فى الداخل إلى الطاولة حيث كانت تنتظرة بحيرة بالغة وما أن إقترب منها حتى نهضت قائلة:
- مش قولتلك يا "خالد" حاله عجيب اليومين دول
جلس  "خالد" مرة أخرى وتناول ثمرة تفاح من أمامه على الطاولة وقضم قطعة منها وهو يقول ببساطة:
- بكره هاعرفلك ماله بالظبط يا عمتو مش هيقدر يخبى عنى كتير ما إنتى عارفة أنا كاتم أسراره إطمنى .. المهم بس ياله إستعدى معادنا مع الناس قرب
رفعت حاجبيها بإستنكار وهى تنظر إليه وهو يأكل ثم قالت معترضة:
- أنا مش قلت قبل كده التفاح يتقطع بالسكين .. بتاكل كدة ليه
ضحك بشدة بينما  توجهت هى  إلى الداخل قائلة بتقزز:
- أنت و"حسام" هتجيبولى الضغط
لم يستطع أن يتوقف عن الضحك بعد أن رأى علامات التقزز واضحة على وجهها .. إنتقل إلى غرفة المعيشة وجلس يشاهد التلفاز وماهى إلا لحظات ووجدها تخرج منفعلة بشدة ممسكة بهاتفها وتصيح بغضب:
- شايف عمايله يا " خالد " باعتلى رسالة حاولت أتصل بيه بعدها لقيته قفل تليفونه
إعتدل "خالد" بإهتمام وقال متسائلا ً:
- رسالة إيه دى؟
- بيقول مسافر إسكندرية يومين...!
***
قضى نحو أسبوعان بالإسكندرية فى رحلة تقصى وجمع معلومات بشكل متواصل حتى إستطاع أن يجمع قدر وفير كان كافيا ً جدا ً لإسعاده فلقد كان ينوى حرق تلك المسافات التى تفصلهما ولكنه تفاجأ بأنها هى من سبقته ورحلت إلى القاهرة منذ شهور قليلة وإستقرت بها ..
لقد ذابت المسافات تلقائيا ً إذن ولم يبقى إلا القليل الذى سيذيبه بطريقته الخاصة ! .. قطع الطريق مرة أخرى عائدا ً من حيث جاء .. جاهد عقله فى السيطرة على تلك المشاعرالمتأججة بوجدانة فى محاولة غير جادة للسيطرة عليها وتقييد أفكاره الهاربة إليها تاركة المساحة الكافية لفؤاده أن يبعثه أينما شاء ويعيده متى أراد مما جعله يعبث ببعض الإسطوانات المدمجة أمامه وإختار إحداها وهى المسجل عليها بعض الأشعار المسموعة لنزار قبانى وبصوته فقط ..
إبتسامة منتشية تحمل الكثير من النشوة واللهفة بين طياتها لاحت فوق شفتيه وهو يستمع إلى الكلمات التى تنطق بما يجيش بصدره وظل يتمتم خلفه مرددا ً:
- أشكوكِ للسماء .. كيف إستطعتى أن تختصرى جميع ما فى الأرض من نساء
- أنا عنكِ ما أخبرتهم .. لكنهم لمحوكى تغتسلين فى أحداقى
- أنا عنكِ ما كلمتهم .. لكنهم قرأوكِ فى حبرى وفى أوراقى
- للحب رائحة وليس بوسعها أن لا تفوح مزارع الدراقِ
لم تتوقف شفتيه عن الإبتسام لمدة طويلة رغم توقف الإسطوانة عن الدوران وظل محتفظا ً بها معظم الطريق حتى قطع إبتسامته رنين هاتفه ..
نظر للهاتف وإلى شاشته المضيئة بإسم "خالد" وأجابة بسعادة واضحة :
- "خلود" عامل إيه
إلتفت "خالد" إلى عمته بجواره فى السيارة متعجبا ً ثم قال مازحا ً:
- معلش يا فندم تقريبا ً الرقم غلط أصل اللى كنا عاوزين نكلمه واحد كئيب كده أعوذ بالله منه
ضحك "حسام" ضحكات رنانة إستمعت لها والدته الجابسة بجوار "خالد" فابتسمت رغما ً عنها بينما أردف "خالد" متسائلا ً :
- أنت فين يابنى أخيرا ً حنيت عليا ورديت على تليفوناتى
تنفس بقوة يملأ رئتيه بالهواء العابث الذى يعبث بوجه تارة وبخصلاته تارة أخرى ثم قال :
- أنا راجع القاهرة إنتوا فين دلوقتى
إبتسم "خالد" بمرح :
- يدوب لسه واصلين تحت بيت خطيبتى وقلنا نكلمك قبل ما نطلع
رفع "حسام" حاجبيه وأجاب بدهشة بالغة:
- يا راجل ! لحقت تبقى خطيبتك ؟
مرر "خالد" أصابعه بين خصلات شعره وقال بغرور:
- طبعا يابنى هو أنا حد يقدر يقولى لاء
ثم تابع بقلق:
- المشكله بس إنها لسه موافقتش رغم إن أهلها موافقين جدا وقلت نييجى النهاردة أقعد معاها وأحاول أقنعها
قال "حسام" ساخرا ً:
- يعنى العروسة لسه موافقتش وتقولى خطيبتى طب روح إلعب بعيد بقى
عقد "خالد" حاجبيه وقال وهو يترجل من السيارة ويدور حولها ليفتح الباب لعمته وهو يقول بثقة:
- هتوافق هى هتروح منى فين المهم بقى شد حيلك عاوزين نتجوز فى يوم واحد ولا السفرية دى راحت عليك أونطة
قال"حسام" بتفكير:
- لا أونطة إيه خلاص كلها خطوة واحدة وهاتسمع أخبار حلوة أوى
جذبته عمته من ذراعه إلى الداخل وأخذت الهاتف من يده ووضعته على أذنها وهى تقول على عجلة من أمرها:
- حمد لله على سلامتك يا حبيبى لما تروح البيت أبقى طمنا إنك وصلت لازم نقفل دلوقتى طالعين عند الناس
أغلق الهاتف وواصل الطريق إلى منزله .. صعد الدرج الكبير المؤدى إلى بوابة العقار من الخارج  وهو يبتسم لكل من يواجهه إبتداءا ً من حُراس العقار مرورا ً بالخادمات التى كدن أن يصطدمن به على السلم الذى كان يسابق درجاته صعودا ً فهو كعادته لا يستقل المصعد إلا قليلا ً إلى أن إستقر به المقام بداخل شقته ..
ألقى التحية كعادته على خادمتهم بالمطبخ وهى منشغلة بإعداد الطعام ثم توجه إلى غرفته .. فتح الخزانة الخاصة به وأخرج صورة كان قد رسمها بيده منذ عام تقريبا ً وبالتحديد فى آخر ليلة من ليالى رمضان .. جعل ينظر إلى الصورة ويبتسم وهو يمنى نفسه باللقاء المرتقب وأخيرا ً تذكر كلمات والدته وهى توصيه بالإتصال بهما فور وصوله ..
أضاءت شاشة الهاتف الخاص بــ"خالد" باسم "حسام" وصورته الشخصية .. كان موضوعا ً على الطاولة الصغيرة أمامهما وهو جالس بجوار فتاته وعلى مقربة منها ..
إلتقط "خالد" الهاتف فى سرعة وأجاب وهو ينظر إليها معتذرا ً تحدث إليه قليلا ً وبكلمات مختصرة ثم عاد إليها ملتفا ً بجسده كله وهو يقول :
- أنا آسف والله على المقاطعة .. ها كنا بنقول إيه
إبتلعت ريقها بصعوبة وإصفر وجهها إضطرابا ً بعد أن إلتقطت عيناها الصورة والإسم اللذان أضاء بهما شاشة هاتفه وقالت بإرتباك:
- لا أبدا ً مافيش حاجة كنت كمل كلام عادى مع صاحبك
دهش "خالد" فلقد كانت صامتة تماما ً لم تتفوه سوى بأنها غير مستعدة الآن للزواج أو الإرتباط ثم صمتت وكأنها كانت تخبره رفضها بشكل لائق بهذا الصمت ولذلك وجدها فرصة سانحة ليخرجها عن صمتها وقال ببساطة:
- لا مفيش حاجة إزاى ..وبعدين ده راجل مبسوط بقى وبيحب وماكنش هايبطل رغى
صمتت مرة أخرى ولم تجيبه فقال وهو يحاول أن يختلق أى حديث بينهما :
- أهو صاحبى ده مأجل معاد جوازه بسببنا يرضيكى يعنى كدة
رفعت رأسها إليه متسائلة :
- هو هيتجوز قريب ؟
أجاب على الفور :
- أه طبعا .. ده بيحب وغرقان لشوشته ومش عاوز يحدد معاد جوازه إلا لما إحنا نحدد الأول
ثم إعتدل فى جلسته بحماس وهو يتابع:
- أنا مش عارف إنتى مترددة ليه إدينى فرصة طيب وأوعدك إنك مش هتندمى ..
قولتى إيه يا حبيبة ؟. 

السبت، 12 أبريل 2014

رواية حكايـــة حبيبـــة .. الفصل الرابع

روايــــة حكايـــــة حبيبــــة

الفصل الرابع


ها هو الضوء الأبيض قد عاد من جديد ليضرب ناظريها ها هو جسدها يشعر مرة أخرى بالفراش الوثير الذى يسكن فوقه .. لماذا تكرهها تلك المدينة إلى هذا الحد .. لماذا كلما عصفت بها الرياح إليها آذتها وقذفت بها مرة أخرى فى أعماق نيلها ومرة أخرى بين أنياب ذئابها ..
أغمضت عينيها التى فشلت فى فتحهما وهى تتحسس تلك الضمادة التى تحيط برأسها وتشعر ببعض الدوار يلفها وفجأة إنفرجا جفنيها بشدة وفتحت عينيها المجهدة وهى تشهق بلوعة ورعب  وإنتفضت جالسة عندما طرقت ذكرى السويعات القليلة الماضية ذاكرتها بجنون ..
صور متقطعة لثوانى رهيبة مرت بها داخل السيارة بين يدي خاطفيها .. سيارة تقاوم الرمال محاولة السير بأقصى ما تستطيع .. صرخاتها المكتومة فى راحة يد الجالس بجوارها ..
دموع منهمرة .. مقاومة فاشلة .. توقفت السيارة وفُتحت أبوابها وفُتح معها الجحيم ..
جسدها يُسحل خارج السيارة ويُلقى به إلى الرمال .. لا تعلم كيف توازنت .. لم تسقط وبدأت بالركض .. لحقا بها سريعا ً .. كبلها أحدهم للآخر ..
مصابيح سيارة قوية قادمة .. طلقات نارية .. دُفعت بقوة .. سقطت .. ثم إرتطام رأسها بأحد الصخور ..
تداخلت الأصوات ثم صمت كل شئ من حولها
.. سكون .. رؤية مشوشة لأحدهم قادم ويقترب منها ينزل على ركبتيه وينظر إليها عن قرب متفقدا ً حالها عاقدا ً جبينه قلقا ً ... ثم دهشة ...  
تحركت شفتيه بكلمات لم تسمعها .. ثم غيبوبة أخرى غاصت فيها حتى الأعماق ..
- إوعى تعملى زى الأفلام وتقولى إنك فقدتى الذاكرة
إلتفتت إلى محدثها وهى تضيق عينيها ناظرة إليه محاولة تبين ملامحه أكثر وأكثر حتى إتضحت تماما ً أمامها ..
فركت عينيها ثم حدقت في وجهه الباسم بدهشة بالغة عاينته سريعا ً بنظرات مضطربة ..
يا إلهى إنه هو .. ملامحه الجذابة  .. عضلاته المفتولة البارزة .. بنيانه القوى ..
هو نفسه ... مُنقذ المياة هو نفسه مُنقذ الصحراء ولكن كيف ؟!! ..
لقد كانت تعتقد أن ما رأته فى المياة وهي تغرق مجرد وهم ..
فكيف يصبح الوهم حقيقة ويعود من جديد لينتشلها مرة أخرى ..
هل يتجسد الوهم إلى هذا الحد حتى نظنه حقيقة ؟!! 
ولكنه يجلس أمامها ويبتسم ويتحدث وتسمعه بأذنيها فكيف ذلك؟! ..
- إنتى يا شاطرة .. هتفضلى تبحلقى فيا كده كتير
جاهدت لُتخرج صوتها بصعوبة وكأنه عالق داخل حلقها وقالت بإرتياب:
- هو أنت بجد؟
نهض واقفا ً بحركة مسرحية وهو يلوح بذراعيه صائحا ً بسخرية :
- أنا قلت بالكتير هتعملى فيها فاقدة الذاكرة لكن ماكنتش عامل فى حسابى أنك هتطلعى هبلة
فُتح الباب ودلف الطبيب بمعطفه الأبيض وإقترب من سريرها بخطوات رصينة وهو يقول مبتسما ً :
- حمدلله على السلامة يا آنسة
وقبل أن تُجيبه أردف مطمئنا ً :
- متقلقيش الحمد لله كابتن " حسام " أنقذك فى الوقت المناسب
نظرت إليه فوجدته يعقد ذراعيه فوق صدره ويزم شفتيه ثم يقول بغرور زائف :
- لالا مفيش داعى تشكرينى ده واجب عليا
رفعت حاجبيها ببلاهة ثم عادت إلى الطبيب بناظريها الذى تابع حديثه بإهتمام :
- إحنا أخدنا رقم والدك من تليفونك وإتصلنا بيه  إرتاحى لحد ما يوصل
ثم إلتفت إلى "حسام" وأشار إليه بسبابته محذرا ً :
- أنا هامر على كام حالة وأرجعلك تانى .. مش عاوز إزعاج للآنسة
أومأ "حسام" برأسه معاتبا ً :
- رغم إنك ظالمنى بس حاضر يا "على" مش هعمل إزعاج
يبدو أنهما صديقان ويبدو أنه مشاغب من الدرجة الأولى .. بمجرد أن خرج الطبيب من الغرفة جلس على طرف الفراش فى مواجهتها قائلا بشك وبنظرات ثاقبة :
- إيه اللى خلاكى تركبى معاهم العربية
نظرت إليه بغضب ..هل يُلمح لشىء ما ؟ ..
لا لقد تجاوز كثيراً لن أسمح له بالحديث معى بتلك الطريقة ..عقدت جبينها وإنفرجت شفتاها ثم وجدت نفسها تقول بخفوت :
- أنا كنت عاوزه أروح المحطة علشان أرجع إسكندرية وماكنتش لاقيه مواصلات خالص
إستند بظهره إلى الخلف وهو يقول معقبا ً:
- كان معايا حق لما قلت عليكى هبلة
حدقت به مرة أخرى غير مصدقة الطريقة التى يتحدث بها إليها دون سابق معرفة ..
لم يبالى بنظراتها المحرقة واستطرد متسائلا ً :
- وإيه بقى اللى جابك القاهرة لوحدك كدة
إنتفضت بغضب وهى تصيح :
- وإنت مالك إنت ... تعرفنى منين علشان تقعد تحقق معايا كدة
شعرت بصداع عنيف يهاجمها على أثر صياحها فرفعت ذراعيها لتمسك برأسها بقوة ولكن الألم قد إزداد حدة وسمعته يقول ببرود :
- طب أنا هاسيبك ترتاحى
نهض وإستدار ليخرج وعندما إقترب من الباب إستوقفته وهى تقول بخفوت متألمة :
- هو أنت أنقذتنى إزاى ؟
إستدار إليها بإبتسامة غامضة زادته جاذبية وهو يقول :
- صدفة ..!
ثم أردف وهو يفتح الباب بهدوء ويمرر أصابعه فوق خصلات شعره المتمردة :
- أنا مش هامشى أنا بره لحد ما والدك ييجي
إختفى خلف الباب المغلق بهدوء فأغمضت عينيها بقوة وهى تستلقى ببطء وتزفر بقوة متمتمة بدهشة :
- مستحيل ..!
ماذا يحدث أنه حقيقى ليس وهماً ولكن مهلاً هذا ليس وقته الآن فهى تنتظر عاصفة الغضب التى ستأتى محملة بكل ماهو خانق بصحبة والدها .. كيف ستبرر أفعالها الغير مسؤلة أمامه والتى كادت تودى بها إلى الهلاك ..خفق قلبها بشدة قلقاً وهى تستمع إلى دقات ساعة الحائط المعلقه أمامها وكأن كل دقة فيها تنذرها بقدومه وبقرب العقاب .. وأخيراً استسلمت للنوم العميق بعد فشلها فى ابقاء عينيها مفتوحتان فهى فى مكان غريب عليها لا تعرف فيه أحداً سوى شخص واحد لازالت حتى هذه اللحظه تشك فى وجوده من الاساس .
أرتكن بظهره إلى الحائط وأستند برأسه إليها وهو يضغط جبينه بقوة من فرط الأرهاق والأجهاد الذى يشعر بهما وهو يجيب صديقه الطبيب بحسم:
- يا "على" مش هامشى غير لما أبوها يجى ريح نفسك
رفع "على" حاجبيه وارتسمت على شفتيه إبتسامة ماكرة معقبا ً:
- يبقى زى ما أنا توقعت ... دى واحدة بقى من حريمك ولا إيه يا دنجوان
إلتفت إليه بضجر قائلا :
- بلاش كلام فاضى هو البعيد مابيعرفش يميز كمان
حك "على" ذقنه بحيرة وهو يقول :
- أمال إيه بس .. تعرفها طيب ؟
لم يستطع أن يمنع تلك الإبتسامة الجذلة التى إرتسمت رغما ً عنه فوق شفتيه وهو يتمتم :
- مش بالظبط
زفر "على" بقوة وهو يستعد للمغادرة :
- بقولك إيه الحكاية مش ناقصة فوازير أنا النبطشية بتاعتى خلصت والنهار طلع هاتيجى معايا ولا هاتفضل هنا ؟
ألقى "حسام" نظره خلف كتفي"على" وهو يشير بعينيه إلى أحدهم خلفه  
ويقول بهدوء :
- تقريبا ً اللى جاى ده أبوها
لم يكن من الصعب تميز رجل غاضب آتى من بعيد يتلفت حوله وينظر إلى أرقام الغرف على الجانبين فوضع يده على كتف صديقه قائلا ً :
- اسمع يا "على" زى ما قلنا تحت فى الإستعلامات البنت جات هنا نتيجة حادثة سرقة ماشى ..
إلتفت إليه متعجبا ً وكاد أن يصيح إلا أن "حسام" أشار إليه أن يخفض صوته فقال :
- آه بس ده أبوها يا "حسام"
نظر له بحزم وقد دنى منهما الرجل الغاضب ووقف وهو يوجه كلامه للطبيب متسائلا ً بإنفعال :
- أنا والد "حبيبة سليم" حضرتك دكتور "على " اللى كلمتنى مش كده
إزدرد على ريقه وهو يوزع نظراته بينه وبين والدها وحاول أن يبدو واثقا ً من حديثه وهو يقول :
- أيوا يا فندم أنا
أومأ والدها برأسه بحركات عصبية وهو يعقد حاجبيه قائلا :
- ممكن أعرف إيه اللى حصلها بالظبط
عدل من وضع نظارته الطبية كمحاولة لبث الثقة فى نفسه وهو يقول :
- الآنسة إتعرضت لحادثة سرقة وكابتن "حسام" أنقذها وجابها هنا المستشفى
إلتفت والدها إلى "حسام" الذى مد يده على الفور مصافحا ً ومعرفا ً بنفسه :
- "حسام الصياد" مُدرب لياقة بدنية
تفحصه والدها لثوانى وهو يصافحه ثم قال بضيق :
- عملت محضر ولا حاجة يا أستاذ " حسام "
إرتفع حاجبيهما بدهشة بالغة  فلقد توقعا أن يسأل عن تفاصيل الحادث وماذا حدث لإبنته وماهى حالتها الصحية الآن ..
يبدو أنه قرأ ما يجول بخاطرهما فى نظراتهما المتعجبة فتنحنح وقال متحرجا ً :
- أنا أصلى رجل أعمال وسمعتى هى رأس مالى والصحافة ما هاتصدق علشان تكبر الموضوع
نظرا إلى بعضهما البعض فى صمت فتابع على الفور موجها ً حديثه للطبيب :
- ينفع أخدها دلوقتى يا دكتور
وقبل أن يجيب إندفع "حسام" مقاطعا ً :
- الدكتور كان بيقول إنها المفروض تعمل أشعة النهاردة علشان نطمن
نظر له "على" بنظرات ثاقبة و بضجر واضح
تركهما ودلف سريعا ً إلى الداخل .. تكلم "على" بغضب ولكن بصوت خفيض قائلا :
- أنت بتستهبل يا "حسام" هتتدخل فى شغلى كمان
زفر"حسام" بقوة وهو يعود إلى حالته الأولى مستندا ً إلى حائطه مغمض العينين يجيش صدره بالكثير من المشاعر والتساؤلات الحائرة ولكنه لم يستطع أن يتجاهل تلك المعركة التى كانت تدور فى الداخل ولكن من طرف واحد !..
إقتربت قبضته الكبيرة من مقبض الباب يحاول أن يمنع نفسه من الدخول ولكن صوت بكائها كان قويا ً يجذبه إليها كأنه يطلب منه الحماية ويدعوه للدخول بشدة
بكت بقوة وهى تجلس فوق فراشها وتضع كفيها فوق وجهها بؤسا ً وألما ً .. تُخفى عينيها المنكسرة وهى تستمع إلى إهانات والدها المتتالية كرماح تخترق صدرها وقلبها وتكوى فؤادها كيا ً شديدا ً ..
- جايه تجرى وراه بعد ما سابك وفسخ الخطوبة ورماكى إنتى إيه ماعندكيش دم ماعندكيش إحساس .. عارفة لو كانت الحادثة دى وصلت للصحافة كان هايحصل إيه ..
عاوزه تفضحينا يا "حبيبة"
ودت لو صرخت لتخرج ما يعتمل فى صدرها ..
لم تأتى لتسترجعه وإنما لتواجهه وتتأكد من الخبر بنفسها وتعرف لماذا لم يواجهها وينفصلا بإحترام ورُقى ..
نعم أخطأت ولكنها عوقبت وبشدة .. يكفى لحظات الرعب التى مرت بها فى الصحراء بين يدي خاطفيها ..
تحتاج إلى الإحتضان إلى الشعور بالأمان بين ذراعى والدها ...
ولكنها لم تتلقى سوى كلمات مميتة تخنقها وتجرحها وتنزع عنها كرامتها وآدميتها لتبقيها فى العراء تُسحق عظامها بداخل رحى الحياة بلا مأوى حقيقى تلتجأ إليه وتحتمى فيه ..
جذبها من كتفيها وهو يمسكها بقوة وإنفعال :
- هانرجع إسكندرية دلوقتى ومن هنا ورايح مفيش خروج من البيت إلا لما تعرفى تحافظى على إسم عيلتك ..
إحنا مش ناقصين بلاوى كفاية الخسارة اللى نازلة ترف على دماغنا
شعر بمن يضع يديه على كتفيه من الخلف مهدئا ً :
- إهدى شوية يا فندم الدكتور بيقول الإنفعال خطر عليها دلوقتى
تركها وإلتفت إلى "حسام" الذى كان يقف خلفه ويقف "على" بجواره كتلميذ مطيع تلقى تعليمات فورية من أستاذه وحان وقت إلقائها فقال :
- كدة خطر عليها يا فندم إحنا لسه ماطمناش على المخ  وبعدين المستشفى هنا تفهمت الأمر ووافقوا إن مفيش محاضر تتعمل علشان حالتها كويسة لكن لو حصل مضاعفات ممكن يغيروا رأيهم .
زفر والدها بقوة وهو يبتعد عنها ثم أخرج هاتفه وتحدث إلى والدتها للحظات بإنفعال وهو يقص عليها ما حدث ثم مد يده إليها بالهاتف دون أن ينظر إليها ..
وضعت الهاتف على أذنها بإرتجاف تساءلت والدتها عن حالتها الصحية بإقتضاب ثم أردفت بجمود وهى تنهى المحادثة :
- لينا كلام تانى لما ترجعى
تنحى والدها جانبا ً بعد أن تناول الهاتف ليستكمل حديثه إلى والدتها مرة أخرى وتركها بجانب فراشها ترتجف كالعصفور المبلل بماء المطر .. إقترب "حسام" منها وقال بخفوت :
- والدك عارف إنها حادثة سرقة
إلتفتت إليه بعيناها المغطاة بالدمع وهى تبتلع ريقها بصعوبة ..
كانت تود أن تشكره لأول مرة منذ أن عادت إلى وعيها ولكنه قطع عليها الطريق وتابع بخفوت وهو ينظر إليها بإشفاق :
- ماتخافيش كل حاجة هتبقى كويسة .. خاليكى أقوى من كدة
أطرقت برأسها أرضا ً وهى تبحث عن كلمات تشكره بها ولكن حروفها تعثرت كعادتها وخذلتها فأطبقت شفتيها بقوة وتركت لدمعها العنان لعله يجيبه بدلا ً عنها
***
عادت إلى الإسكندرية مخذولة تكفكف دمعها وهى تستمع إلى سيل الكلمات الحارقة التى تسيل من فم والدها بلا توقف حتى أنقذها هاتفه من شذره المتطاير وإنشغل بمحدثه طويلا ًً وتركها تستند إلى ظهر مقعدها فى السيارة بجواره وتلتفت إلى الطريق وكثبان رماله المتلاحقة ..
أغلقت عينيها حزنا ً .. ووجدت إبتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها بالقوة وتغزوها شغفا ً عندما تذكرت آخر عبارة تمتم بها بهدوء بالقرب منها قبل أن ترحل بصحبة والدها
"معلش بقى تليفونى كان ضايع فاضطريت أرن عليه من موبايلك لو لقيتى رقم غريب فى سجل المكالمات عندك إعرفى إنه رقمى " ..
يبدو أن صديقه الطبيب كان محقا ً إنه مزعج بل ومشاغب بالفعل ولكن خلفه سر كبير ولكن ليس لديها حاجه ملحةً فى معرفته الآن فليبق السر سرا ً ولكنها كانت مخطئة قد يبقى سرا ً ولكن ليس كثيرا ً .

الثلاثاء، 8 أبريل 2014

رواـة .. حكايــة حبيبــة .. الفصل الثالث

رواية حكايـــة حبيبـــة

الفصل الثالث


تعثُر ما يلوح فى الأفق .. ما يموج حولها ينطق بهذا .. بدى الوجوم على والدتها وهجرت عاداتها اليومية وبدت أكثر شرودا ً وأقل مرحا ً لم تعد تذهب إلى النادى الرياضى لتمارس رياضة المشى كل صباح لم تعد تحدث صديقاتها فى الهاتف كثيرا ً لم تعد تقيم الحفلات بمنزلهم أسبوعيا ً ..
أما والدها فلم يعد يتكلم بات يصرخ ويهدر كلما دخل غرفة مكتبة الخاصة أما أختها " نشوى" فمنذ أن وضعت طفلها الأول وهى غائبة عن المشهد برُمته وزوجها "راغب" باتت  تراه كثيرا ً فى الآونة الأخيرة ..  
حتى جاء اليوم وإستطاعت فهم ما يحدث حولها .. كانت قد إنتهت من إرتداء ملابسها ووقفت أمام مرآتها وهى تضع اللمسات الأخيرة  قبل أن تغادر وفى نفس الوقت تتحدث إلى إحدى صديقاتها فى هاتفها النقال .. لمحت فى المرآة باب غرفتها يُفتح وهى تضع عطرها المفضل فى عجلة من أمرها .. إبتسمت بمرح وهى ترى " نشوى" تخطو داخل غرفتها حاملة طفلها الصغير والذى لم يبلغ شهره الثانى بعد بين يديها فتوجهت إليها على الفور وأخذت الطفل بنعومة فوق ذراعيها وهى تداعبة بسبابتها بخفة تلامس شفته السفلى الصغيرة وتصدر أصواتا ً مضحكة تلاطفه بها منسجمة تماما ً معه إلا أنها تذكرت موعدها مع صديقتها والتى نسيته تماما ً منذ لحظات عندما رأت تلك العينين البريئتين التى تفتح بالكاد فأعادته إلى أختها وهى تتكلم بسرعة قائلة:
- معلش يا " نشوى" مضطرة أسيب القمر ده وأنزل دلوقتى .. إتأخرت أوى على معادى
وقبل أن تتحرك من مكانها أوقفتها " نشوى" بكلمات حادة أجبرتها على التصلب مكانها على الفور وكأنها تحجرت فجأة :
- يابرودك يا شيخه ولا على بالك كل اللى إحنا فيه
إلتفتت"حبيبة " إليها برأسها متعجبة وهى تقول:
- فى إيه يا " نشوى" بتكلمينى كده ليه ؟ 
إستدارت " نشوى" بجسدها كله وإتخذت موضعا ً متحفزا ً وهى تقول بشراسة :
- طبعا ً ما إنتى نايمة فى العسل وماتعرفيش إن بابا خسر فلوس كتير جدا فى آخر صفقة دخلها وبقينا كلنا مهددين بالإفلاس
حاولت "حبيبة" أن تستوعب تلك الكلمات التى أُلقت فى وجهها دفعة واحدة وهى تُكرر آخر كلمة طرقت سمعها بشدة:
- إفلاس ؟!!
طرقت الخادمة الباب فى تلك اللحظة وهى تدلف بجزء من جسدها إلى الداخل قائلة بأدب:
- مدام " نشوى" .. "فريدة" هانم عاوزه حضرتك بره
إحتقن وجه "نشوى" بشدة وأخذت تصيح ناهرة إياها بقوة :
- قولتلك مليون مره إسمى " نشوى" هانم .. فاهمة ولا لاء
أطرقت الخادمة برأسها فى ذعر وقد تشابكت حروف إعتذراها وإختلطت بإرتباك وخوف حتى شعرت براحة يد "حبيبة " الدافئة توضع على كتفها قائلة:
- معلش يا " أمل" روحى إنتى دلوقتى لو سمحتى
لملمت " أمل" شتات نفسها وهى تتراجع للخلف وتخرج متجهة إلى الخارج بينما إنسحبت "حبيبة" خلفها من الغرفة فى صمت متوجهة إلى والدتها مباشرة بخطوات سريعة و" نشوى" تلاحقها بخطوات أسرع منها وعينان يتطاير منهما الشرر والطفل يهتز بين يديها بشدة من فرط تحركاتها العصبية المنفعلة وبمجرد أن إقتربت "حبيبة" من والدتها إنخفضت قليلا ً لتضع قبلة صغيرة على وجنتها كما تفعل يوميا ً قبل خروجها من المنزل ولكن كلمات " نشوى" توقفها للمرة الثانية ولكن هذه المرة لم تكن كلمات حادة فقط بل كانت ذابحة :
- طب متنسيش بقى يا أم قلب حنين تكلمى حبيب القلب وتباركيله على الجواز
ظلت منحنية لثوانى وكأن الزمن قد توقف بها فى تلك اللحظة لم تفق منها إلا عندما وقفت والدتها تنظر إلى " نشوى" بتساؤل وهى تقول:
- جواز مين يا " نشوى"
خطت " نشوى"بهدوء تجاه أحد المقاعد الوثيرة التى تتوسط حجرة المعيشة وجلست مستقيمة الظهر ثم قالت وهى تلتفت إليهما برأسها ببطء وتزم شفتيها بلامبالاة :
- " شادى" وبثينة " هانم .. كل المجلات الفنيه ناشرة خبر جوازهم بالصور لو حابين تتأكدوا
تجمدت ملامح "حبيبة" لحظات إلى أن زحفت إبتسامة صغيرة إلى أحدى جوانب ثغرها وهى تقول بعدم تصديق:
- مستحيل طبعا ً
عادت والدتها إلى جلستها مرة أخرى وهى تنفخ بقوة معقبة :
- أحسن بلا قرف
أنهت عبارتها وهى تلتفت إلى "حبيبة" التى ترتكتهم وغادرت على الفور بصمت .. عادت مرة أخرى إلى " نشوى" بعينين قلقتين فقالت "نشوى" على الفور:
- بنتك دى أصلها مدلعه سيبك منها وخالينا فى اللى إحنا فيه هانخرج من كارثة الديون دى إزاى ؟
***
أخذتها قدميها إلى منزله حيث يعيش مع عمته المسنة فى ذلك المنزل القديم وتصارع بداخلها مشاعر عدم التصديق لما سمعت من أختها وتقاوم الأدلة التى تؤكد صدق كلماتها وما لاحظته من تغيير كبير فى تصرفاته فى الآونة الأخيرة ..
وبعد دقائق من عمر الزمن وجدت نفسها تجلس فى شرفة ردهة فسيحة  تطل على إحدى الشوارع الجانبية بصحبة عمته يفصل بينهما طاولة صغيرة موضوع عليها أدوات القهوة وفنجانين قد إمتلآ إلى المنتصف تقريبا وتقص عليها ما سمعته متسائلة عن مدى صدقه ولكنها لم تجد سوى نظرات حائرة بداخل عينين غائرتين تحيطهما أهداب متجعدة بفعل الزمن وكلمات منفعلة مزجت بين الدهشة والضيق قالتها عمته وهى تهندم وشاحها الأسود فوق كتفيها :
- لا يابنتى إوعى تصدقى الكلام ده ... ده بيكلمنى كل كام يوم يطمن عليا لو كان إتجوز كان قالى
أنهت المرأة حديثها فلم ترى أى أثر للإقتناع على وجه " حبيبة " مازال جبينها مقطب والحزن يلمع يعينها شاردة الذهن فإستطردت  قائلة:
- إنتى لسة مصدقة الكلام الفارغ ده ؟
أشاحت "حبيبة" بوجهها وهى تجيب بخفوت:
- لو الكلام ده غلط ليه مش بيرد على تليفوناتى المدة دى كلها ..
حاولت عمته أن تقتطع الشك باليقين فتناولت هاتفتها النقال ومدت ذراعها به لها وهى تقول بثقة:
- طب أنا هاكلمه قدامك وأخاليه يقولك إن الكلام ده كله كدب يابنتى .. بس طلعيلى إنتى اسمه من هنا علشان التليفون ده خطه صغير أوى وأنا نظرى بقى على قدى اليومين دول
أخذت "حبيبة" الهاتف بتردد وضغطت أزراره تبحث عن اسمه حتى وجدته ..ألقت نظرة سريعة على الرقم أسفل الإسم ورفعت حاجبيها بصدمة بالغة وهى تُتمتم :
- يااه وكمان غير رقمه
لم تسمع عمته تلك الهمهمات فلقد كانت منشغله بإنتظار إجابة الرنين بحماس كبير وأخيرا ً أتاها صوتا ً أنثويا ً يجيب بشكل روتينى فقالت المرأة على الفور :
- إدينى يا بنتى " شادى" ابن أخويا قوليلوا عمتك
أجابت السكرتيرة ببرود:
- آسفه يا فندم عنده تسجيل حضرتك ممكن تكلميه بعد الساعه عشرة يكون خلص
إنفعلت المرأة أكثر وقالت بعصبية :
- تسجيل إيه وبتاع إيه باقولك قوليلوا عمتك عاوزاك ..
وقبل أن تنهى عبارها وجدت "حبيبة" تسحب منها الهاتف وتضعه على أذنها وتقول :
- طب من فضلك إدينى عنوان الإستديو علشان عاوزينه فى أمر ضرورى
كتبت العنوان وأغلقت الهاتف ووضعته على الطاولة أمام المرأة التى رأتها تتناول حقيبتها بحركة سريعة وتتحرك للخارج بصمت كل حركة كانت تقوم بها أنبأتها أنها عازمة على السفر الآن فقالت بإلحاح:
- رايحة فين يا "حبيبة" هتسافرى القاهرة لوحدك يا بنتى ده المغرب قرب
ولكنها لم تستمع إلى حرف مما قيل كانت هى الأخرى تسعى إلى قطع الشك باليقين ولم يكن يكفيها محادثةً عبر الهاتف كانت تريد المواجهة لتتأكد بنفسها فربما يكذب عليها عبر الهاتف ولكنه لن يستطيع الكذب وهى تنظر إليه مباشرة ..
دون تفكير خطت داخل محطة القطار وحجزت مقعدا ً فى أول قطار متوجه إلى القاهرة وجلست تنتظر .. لم تشعر بالوقت ولم تفكر فى شىء سوى مواجهته لتسأله سؤالا ً واحدا ً وهى تنظر إليه .. لماذا ؟
ها هو القطار يمضى بها إلى مدينة غريبة عليها لم تسعى إليها وحدها مطلقا ً...
وهاهى الآن تجلس وحدها بداخل قطار يسرع بها .. يسافر بها وحدها ... نعم كان هناك رُكاب كثُر ولكنها لم ترى سوى الأعمدة المتلاحقة والتى بدت تسابق القطار وتحاول تخطيه ولكنها تفشل ..  تنظر من النافذة الذى تغبر زجاجها بأنفاسها الحارة إلى جانب الطريق الذى يلتهمه القطار إلتهاما ً سريعا ً وهى تستند برأسها إليه وما أن أسدل الليل أستاره وبدأت مصابيح أعمدة الطريق تنير بقوة حتى بدأ شريط الذكريات يتلاحق هو الآخر كتلاحق تلك الأعمدة ..
تذكرت حفلة الجامعة التى رأته فيها وأُعجبت بصوته الدافىء وإتقانه أداء الأغنيات القديمة التى تعشقها وفى يوم وليلة بدأ يتقرب منها ويتعرف إليها أكثر وأكثر ويندمج بين أى مجموعة تجلس إليهم ويوجه أحاديثه وكلمات أغنياته وإهتمامه إليها هى وحدها بشكل خاص حتى لفت إأنتباه الجميع إلى إهتمامه بها وبدأت الفتيات تتحدث بهمس .. إنه مُعجب ولهان ..
تذكرت إضطرابها وإنصرافها من أمامه على الفور عندما صارحها بمشاعره وظلت لأيام بعدها تسأل نفسها نفس السؤال هل أنا أيضا معجبة به أم أنا فقط معجبة بصوته وطريقة أداءه لألحانى المفضلة ..
طاردتها همسات الفتيات من حولها .. تلك الهمسات التى جعلتها تشعر أنها مُميزة .. لأنه إختارها هى من بين الجميع .. لقد كانت تحتاج إلى هذا الشعور كثيرا ً .. الشعور بالإهتمام والتميز فلقد كانت تفتقده بقوة بداخل عائلتها الصغيرة ..
وهنا تركت لمشاعرها العنان معه واستسلمت لرياح الحب القادمة من شماله إلى جنوبها المتجمد دائما ببرودة المصلحة والحسابات الخاصة والصفقات الرابحة والحفلات الصاخبة  .
بدا رصيف وصول القطار إلى محطته المنشودة فى الظهور وعاد كل شىء يسير ببطء وعلى مهل .. زحف القطار بهدوء حتى توقف تماما ً واستعد الجميع للمغادرة كل إلى طريقه وإنسلخت هى من بين الجميع تشق طريقها وهى تحمل الورقة التى دونت بها العنوان وتنظر يمنة ويسرة تبحث عن وسيلة مواصلات تُقلها إليه حتى وجدت سيارة أجرة سيارة أجرة كانت تنتظر على الرصيف الخارجى للمحطة .. أومأ السائق برأسه يؤكد لها أنه يعرف الطريق جيدا ً ورغم أنه على مسافة ليست بالقصيرة إلا أنه سيقلها إليه أسرع من الريح ..
وبدأت رحلة أخرى داخل المدينة المزدحمة والسيارات المتشابكة حتى هدأ كل شىء رويدا ً رويدا ً وإنطلقت سيارة الأجرة أسرع مما كانت عليه بكثير وبدأت بعض كثبان الرمال المنخفضة على جانبى الطريق فى الظهور ..
لم تكن تعى ما يحدث حولها ولا أين هى ذاهبة كانت شاردة تماما ً وكأنها غائبة عن الوعى  حتى توقف السائق بجوار مبنى كبير أُنشأ حديثا ً تحيط الأضواء بالطابق الأسفل منه وتقف أمامه بعض السيارات العصرية ذات الطراز الحديث .. إلتفتت مضطربة إلى السائق الذى أنبأها بالوصول ليخرجها من ذكرياتها المتلاحقة التى سلبتها وعيها وأنستها كيف ستعود من حيث أتت ..
ترجلت من السيارة تتلفت باحثة عنه أو عن أى شىء يدل على وجوده هنا وقد كانت اللحظة الحاسمة التى أتت من أجلها ..
رأته وهو يخرج من الإستوديو مُحيطا ً كتفى " بثينة " بذراعه  .. 
معقول هل هذا هو " شادى" لقد تغيرت هيئته كثيرا ً حتى كادت أن تتغير ملامح وجهه إلا إنه ظل محتفظا ً بتلك الإبتسامة الكبيرة التى تغزو وجهه بالكامل كلما يخطو خطوة جادة فى طريق حلم عمره ..
يكاد يطير فوق الأرض طيرا ً من فرط سعادته وقد إنتهى منذ قليل من تسجيل آخر أغنية فى أول شريط غنائى بإسمه سوف يُطرح فى الأسواق بعد أيام قليلة ليستعد بعدها لتصوير أول " فيديوكليب" فى حياته الفنية ..
وبرغم من أنها لم تصدر جلبة لتلفت إنتباهه إلا أنه إستطاع أن يميزها من بعيد .. لم يكن من الصعب أن يلفت إنتباهه الأُنثى الوحيدة التى تقف بعيدا ً عن دائرة ضوءه والمجال اللامع المحيط به .. إرتبك كثيرا ً وقد إلتقت عيناهما ولم يعرف ماذا يفعل حتى شعر بقبضة " بثينة " تحيط بمرفقه وهى تقول بغضب:
- أيه اللى جابها هنا دى
يبدو أنه لم يكن الوحيد الذى لفت وجود  "حبيبة" إنتباهه فعينيى " بثينة " رصدتها فى الحال وحددت موقعها البعيد لدرجة القُرب الشديد ! ..
تلعثمت الكلمات على شفتيه وتعثرت حروفه وقبل أن يعثر على الكلمة المناسبة شدت  قبضتها على مرفقه مرة أخرى وهى تستطرد بإنفعال:
- إتفضل روح إنهى الحكاية دى بقى ومش عاوزة أشوف وشها تانى
تقدم منها خطوات رتيبة محاولا ً إضفاء بعض الهيبة على قدومه حتى يقطع عليها طريق الشجار أو التوبيخ وما أن وقف أمامها حتى إنصهرت هالة البرود التى أحاط نفسه بها ودمعت عيناه وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين وأطرق برأسه فى خجل ولم يسعه إلا الجلوس بمقعد الإعتراف والبكاء وهو يتحدث عن خطاياه فى دقائق معدودة لم يكن يمتلك غيرها فى تلك اللحظة الحاسمة :
- أنا آسف .. سامحينى .. أنا كنت أنانى وإخترت نفسى وفضلت حلمى عليكى .. عارف إنك صعب تسامحينى بس على الأقل حاولى تلتمسى ليا ولو عذر واحد ..
لم تستطع أن تنتظر أكثر من هذا وهى تراه يعزف لحن الندم على أوتار كلماته البائسة .. قاطعته بحسم متسائلة:
- ليه ؟
سقطت عبرة سريعة مسحها سريعا ً وهو يلتفت خلفه خوفا ً وإرتباكا ً ينظر إلى "بثينة" ثم يعود إليها بجسده كله قائلا ً فى عجلة :
- كان نفسى أحقق حلمى وماكنش قدامى طريق تانى و..
قاطعته مرة أخرى ولكن بحزم هذه المرة قائلة:
-  ليه مصارحتنيش ليه ماتكلمتش بصراحة وقولت إنك مش قادر تكمل معايا .. مش يمكن كنت وفرت على نفسك وعليا كل ده
رفع عينيه إليها مصدوما ً من ثباتها وقوتها فى الحديث فبرغم عبراتها النازفة إلا أن عباراتها صلدة قوية .. كيف تقف هكذا تلومه على عدم صراحته معها ولا تلومه على تركه لها .. هل نزل من نظرها حتى خرج من قلبها بهذه السرعة أم لم يكن بقلبها من الأساس وكانت تتوهم حبه ؟! ..
خُيل إليه  أنها إختفت وتبخرت من أمامه بعد أن ألقت فوق رأسه كلمتها الأخيرة منذ ثوانى :
- ربنا يوفقك
تيقن أنها إنصرفت وإختفت عن ناظريه عندما سمع صوت "بثينة" يلفحه من الخلف بسخرية:
- خلاص يا فنان ودعت حبيبة القلب ؟
إبتلع ريقة بقوة وهو يتمتم محاولا ً إخفاء دموعه :
- أنــا كنت بقولــ ...
جذبته بإتجاه سيارتها مقاطعةً إياه وهى تعانق أصابعه بين أصابعها برقة :
- مش مهم يا حبيبى كنت بتقولها إيه المهم إن حكايتك معاها خلصت خلاص
حاول أن ينظر خلفه مرة أخرى ولكنه لم يجرؤ على فعل هذا إلا عندما فتح لها باب السيارة الخلفى ورآها تجلس بأريحية تامة وهامة مرفوعة وإبتسامة منحوتة ثم أغلق الباب بهدوء وإستغل فرصة دورانه خلف السيارة وألقى نظرة خاطفة لم تجعله يتمكن من تتبع أى أثر لها وكأن الهواء قد حملها لينقلها إلى الإسكندرية مرة أخرى بعد أن عرفت الحقيقة بنفسها ..
فتح الباب الآخر وإستقل السيارة بجوارها بإبتسامة باهتة تخفى خلفها الكثير والكثير .. لم يستطع أن يمنع عقله من التفكير بها ولا قلبه من الدعاء لها فهى لم تكن مصدر لشقاءه فى يوم من الأيام على العكس تماما ًُهو من دخل حياتها فجأة وهو من إنسلخ منها بلا وداع ...
***
ها قد عاد وعيها إليها ولكن بعد فوات الآوان فهى تقف على طريق يبدو أنه شبه خاوى قلما ترى مصابيح قوية لسيارة تمر سريعا ً هنا أو هناك والظلام يلف جزء كبير من المكان الذى يبدو أنه كان صحراء وتم إعمارها وتنميتها ولكن ليس بشكل كامل وأخذ عقلها يدور وهى تجاهد منع دموعها من الهطول وتمسحها بعنف وقوة وهى تفكر كيف ستعود أدراجها فى تلك الساعة من الليل وبأى وسيلة فى هذا المكان الذى إنقطعت منه الوسائل ..
ها قد تعدت الساعة الحادية عشر ليلا ً وإقتربت من منتصفه بقليل ولكن حتى الآن لم يُعلن هاتفها عن أى إتصال قلق من أهلها ولا حتى رسالة تدعوها للإتصال بهم وكأنهم حتى لا يشعرون بغيابها ولا أين هى الآن وماذا تفعل ومع من ؟! ..
إبتسمت إبتسامة حزينة وهى تنظر إلى نفسها ساخرة من تساؤلاتها .. منذ متى وهم يقلقون بشأنى .. منذ متى وهم يتساءلون أين أنا اللآن .. منذ متى وأحدا ً منهم يشعر بغيابى أو حضورى ..
وها هو الشخص الوحيد الذى كان يهتم بى قد رحل هو الآخر غير مبالى بما خلفه وراءه من آثار .. كان الألم شديدا ً ولكن صعوبة موقفها فى تلك اللحظة كان أشد .. وأحتل التفكير فى كيفية عودتها عقلها بالكامل ولم تترك رهبة المكان بقلبها وصفير الرياح حولها  مكان للحزن يسعه بجواره .. خطت خطوات بطيئة وهى تلوح لإحدى السيارات القادمة ربما رآها أحدهم ورأف بحالها وأقلها إلى طريق تستطيع أن تتخذه مسلكا ً إلى محطة القطار ..
صفير الرياح يلفها بشدة ويثير خصلات شعرها ليبعثرها بقوة فوق جبينها وعلى كتفيها و برودة شديدة تدك أوصالها وأصوات نباح قادمة من بعيد تجبرها على إحتضان ذراعيها بترقب وخوف وهى تتلفت بنظرات خائفة يمنة ويسرة باحثة عن أى ملجأ لها .. وأخيرا ً بدت بارقة أمل فى الظهور عندما رأت إحدى السيارات تزحف وهى تقترب منها ببطء شديد ..
إبتلعت ريقها وهى تستعد لإستمالة عطف سائقها بشتى الطرق ليأخذها من هذا المكان الموحش وما أن توقفت السيارة أمامها حتى إنحنت بسرعة لتحدث سائقها ولكنها تفاجأت بآخر يجلس بجواره فلم تُلقى بالاً له ولا لنظراته المتفحصة لها عن قُرب وهى تقول بإضطراب :
- لو سمحت ممكن توصلنى لأى مكان فيه مواصلات أنا أصلى مش من هنا .. ممكن ؟
تبادل صاحب السياره نظرات ما مع الجالس بجواره الذى قال على الفور بحماس وهو يفتح الباب ويخرج منه ثم يفتح الباب الخلفى للسيارة ويشير إليها قائلا بترحاب:
- آه طبعا يا حلوه إتفضلى إحنا تحت أمرك
إبتسمت شاكرة وهى تجلس فى المقعد الخلفى ولكنها فوجئت به يدور حول السيارة وبدل من أن يجلس بجوار السائق جلس بجوارها فى الخلف .. إحتضنت حقيبتها إلى صدرها وهى تضع يدها على مقبض الباب وتستعد لفتحه قائلة بخوف :
- فى إيه ؟
قبض على يدها وسحبها إليه وهو يكممها باليد الأخرى ويشل حركتها تماما فلم تستطع الصراخ أو المقاومة وهو يقول بعبث :
- إهدى كده يا حلوة خالينا نقضى وقت حلو مع بعض
تشنجت عضلاتها وشعرت أن قلبها سيتوقف فى تلك اللحظة وهى ترى السائق ينحرف عن الطريق ويدخل بهم فى الصحراء ويسلك طريقا ً مهجورا ً مثيرا ً خلف إطارات سيارته بعض الرمال التى كانت تقف عليها ببراءة منذ لحظات ولا تعلم ما هو مُخبأ لها بعد لحظات ! .



الأربعاء، 2 أبريل 2014

رواية .. حكايــة حبيبــة .. الفصل الثانى

روايـــة حكايــــة حبيبــــة 

الفصــل الثــانى


غلف الظلام عقلها وأحاط أوصالها ببرودته وتداخلت الأصوات والأضواء حتى شعرت بالصمم المفاجىء .. لم تفلح حركاتها العشوائية وهى تضرب المياه بيديها ورجليها .. جثم ثِقل مياه النيل وظلمتها فوق رئتيها وإنقطع الأمل فى الحياة ..
هل هذه هى النهاية ؟ لابد وأنها كذلك ! .. لاح شعاع ضوء أبيض آتى من بعيد 
شىء ما يسبح نحوها بقوة بل بجنون ! .. يشق المياة نحوها شقا ً غير معقول
.. ها قد بدأ كيانه فى الظهور .. رجل مفتول العضلات قوى البنية يسبح نحوها بسرعة غير إعتيادية .. يصوب بصره نحوها وهو يتجه إليها وكأنها هدف له لا رجعة فيه .
ها قد ظهر جليا رأته بوضوح .. إقترب منها .. مهلا ً ! .. إنه لم يكن يسبح نحوها لقد كان يغرق هو الآخر ويضرب المياه مثلها ولكن كيف إقتربا إلى هذا الحد وبتلك السرعة ..
 كيف إستطاعت أن تراه ؟..وهل تراه حقا ؟! ..
لقد إكتشفت أنها كانت مغمضة العينين هل إنتقلت إلى العالم الآخر ؟ ..
رأى كل منهما نجاته فى الآخر وإتفقا دون حديث ولا سابق معرفة .. دفعها للسطح وجذبته معها .. رويدا ً رويدا ً بدأ الظلام ينقشع ويلملم خيوطه ويطلق سراح عقلها والوعى يزحف إليها ببطىء شديد ..
لاح الشعاع الأبيض مرة أخرى ولكن هذه المرة كان واضحا ً وجليا ً يضرب مقلتيها بضوئه المبهر والأصوات تتداخل ثانيةً ولكنها إستطاعت أن تميزها ...
إستطاع جسدها أن يشعر بالفراش المريح التى تستلقى فوقه .. تثاقلت جفونها وهى تقاوم لتفتحها ببطىء مقطبة الجبين ورأتهم حولها تتباين ردود أفعالهم وتظهر واضحة على تعبيرات وجوههم ما بين الــ ....  الماذا ؟ ! إنهم جميعاً ساخطون ..
والدها والدتها وأختيها وقد كانت أول من تكلم منهم وعبر عن سخطه أختها الصغرى "سلمى" :
- معقول يا "حبيبة" .. بحسبة بسيطة أوى كنتى تقدرى تعرفى إن السور مش مخصص علشان حد يقعد عليه .. بس عموما حمدلله على السلامة
تحركت رأسها ببطء عندما سمعت صيحة والدها من الجهة الأخرى يقول بغضب:
- إنتى هاتفضلى متهورة كده لحد إمتى  وطايشة أهو شغلى كله إتعطل بسبب تهورك ده
وأخيرا ً عثرت على وجه والدتها بجواره وهى تقول بتأفف :
- دى أختك الصغيرة متعملش اللى بتعمليه ده يا "حبيبة" خليتى منظرنا وحش أوى قدام الناس
أنهت جملتها وهى تلتفت إلى "نشوى" التى كانت تنظر إليها ببرود وصمت ثم قالت بإبتسامة ساخرة:
- وقعتى فى الميه علشان ندهت عليكى ؟.. إيه سمعتى صوت عفريت ولا إيه
وأخيرا ً إستطاعت أن تحرك شفتيها بصعوبة وقالت بصوت خافت ضعيف:
- فين شادى؟
حركت "نشوى" عينيها بمكر وهى تقول :
- بره فى الإستراحة مع مدام "بثينة" أصلها صممت تيجى معانا المستشفى بنفسها
أغمضت "حبيبة" عينيها وهى تستجدى الدوار أن يلفها مرة أخرى ولكن طرقات خافتة على الباب قطعت عليها أمنيتها ....
وقع أقدام تقترب منها وشعرت به يجلس بجوارها ويتلمس كفها وهو يقول بتعاطف:
- حمدلله على السلامة يا "حبيبة"
فتحت عينيها وإنزلقت أول عبرة من مقلتها رغما ً عنها لتغوص خلف أذنها ومنها إلى ظلام خصلاتها المبعثرة على الوسادة وقبضت على أصابعه كأنها تقبض على عبارته الرقيقة التى كانت تنتظرها وترجوها من عائلتها أولا ولكنها لم تجد سوى السخط والإستهجان .. أغمضت عينيها بقوة وهى تبلل شفتيها الظمآنة بلسانها ولكنها تذكرت شيئا ً ما لمع بعقلها أو بذاكرتها فجأة ففتحت عينيها وقالت بتساءل:
- الشاب اللى طلعنى من المية فين ؟
تبادل الجميع نظرات الدهشة بينما أجاب "شادى" بإبتسامة صغيرة :
- شاب إيه يا "حبيبة" ده الراجل المراكبى العجوز اللى كنتى بتشاورى لابنه الصغير قبل ما تقعى فى المية
ثم تابع وهو يربت على كفها بين يديه :
- الحمد لله أنه كان قريب منك ولحقك ده إنتى إتكتبلك عُمر جديد
قطبت جبينها وهى ترى لحظة سقوطها تمر أمام عينيها بالفعل كان هناك رجل عجوز خلف الصبى الذى كان يلوح لها ولكن ليس هو منقذها .. لقد كان شابا ً قويا ً تتذكره وتتذكر ملامحه بقوة ..
لازالت تشعر بقبضته وهى تدفعها بقوة للأعلى .. شعرت بصداع قاتل وألم رهيب بجبهتها فضغطت عليها بقوة ربما تُسكت هذا الدق المتواصل بإصرار وسمعت والدها يتحدث فى الهاتف بغطرسته المعتادة إلى سائقه الخاص:
- جهز العربية حالا ً هنرجع إسكندرية دلوقتى كفاية عطله بقى
***
عادت إلى الإسكندرية حيث منزلها وغرفتها المنعزلة التى تحبها وتحب أن تلجأ إليها معظم أوقاتها التى تقضيها فى المنزل لتأوى إلى جدرانها وتجلس خلف مكتبها الصغير وتُخرج مفكرتها التى تدون بين سطورها ما يمر بها من أحداث تندهش لها أحيانا ولا تجد لها تفسير وسطرت بأيدى مضطربة وعقل منشغل الثوانى المعدودة التى قضتها تحت سطح النيل ...
وكلما كتبت عبارة وضعت خلفها علامة إستفهام كبيرة .. لم تستطع أن تفرق بين الحقيقة والحلم والوهم رغم تذكرها لكل تفاصيله .. ولكن الفاصل الزمنى إنعدم تماما فى تلك الثوانى وفى النهاية لجأ عقلها إلى إجابة منطقية ربما تخرجه مما يعانيه من تخبط بين جدران الوهم والحقيقة  ..
ربما سقطت فى غيبوبه بمجرد سقوطها فى المياة ورأت خلالها ما رأت وإعتقدت أنه حقيقة !
***

إنتهت العطلة سريعا ً وإستعادت روحها المرحة وتنفست بعمق وراحة وهى تخطو خطوات سريعة داخل الجامعة بإتجاه صديقاتها وهى تلوح لهن برقة وإبتسامة شغوفة وتؤرجح حقيبتها التى تقبض عليها بيدها الأخرى علامة على السرور والإنتشاء ..
إقتربت وهى تستمع إلى صوت آلة الجيتار يخرج من بينهن .. إتسعت إبتسامتها وقد أيقنت أن "شادى" كان ينتظرها ويعد لها حفلة إستقبال صغيرة بالإتفاق مع صديقاتها ...
صافحت الجميع بحماس ونعومة وما أن وصلت إلى كفة حتى قبض عليها وقبل أصابعها مُرحبا ً بعودتها سالمة وأجلسها بجواره وأخذ يغنى لها كما يفعل دائما ً وصديقاتها يتابعن بإبتسامات متفاوتة .. إبتسامة حالمة وثانية سعيدة وثالثة حقودة !!
وبعد قليل إنفض الجمع وغادرت الفتيات بينما بقيت هى بصحبته كما ألح عليها .. إعتدلت فى جلستها على مقعدها وإستدارت إليه بجسدها كله وعينين مشرقتين وقالت بتساءل :
- ها عملت إيه مع مدام "بثينة" ؟
إضطرب قليلا ً فلم يفهم مغزى سؤالها وقال بإرتباك:
- قصدك إيه يعنى ؟
رفعت حاجبيها بدهشة ولكنها مازالت محتفظة بإشراقتها وإبتسامتها الصغيرة وهى تقول:
- إقتنعت يعنى بموهبتك وناوية تنتجلك حاجة ؟
حرك رأسه يمنة ويسرة وهو ينظر إلى عينيها بحيرة كبيرة وهو يقول بشرود:
- لسه مش عارف
أراحت ذقنها إلى قبضتها وإستندت إليها متابعةً حديثها بإهتمام :
- يعنى ايه .. إقتنعت بصوتك ولا لاء ؟
لاحظت أنه يهرب بعينيه منها وينظر فى إتجاهات أخرى وهو يقول بضيق:
- مش عارف يا "حبيبة" الحكاية مش سهلة .. عقود ومستقبل وفلوس
ثم تابع وهو ينظر إليها معاتبا ً :
- أنتى عارفة الناس دى كل اللى يهمها فلوسها هتروح فين ولمين
زمت شفتيها بقوة وهى تنظر للأسفل وتقول بأسف:
- معلش يا "شادى" هو بابا كده ومش معاك أنت لوحدك .. ومع أى حد حتى إحنا بناته
وجدت عدم الإقتناع مازال يحتل عينيه فحاولت أن تضيف بعض المرح إلى حديثها وهى تقول مؤكدة:
- دى حتى "سلمى" أختى لما قالت أنها نفسها تدخل كلية طب ويبقى عندها صيدلية بإسمها كلمها وحش أوى والبنت جالها إحباط جامد أوي
عقد ذراعيه فوق صدره بتحدى وهو يقول :
- و "راغب" جوز أختك "نشوى" مش برضه بيشتغل معاه فى فلوسه
مالت برأسها يمينا ً وهى تنظر إليه مشفقة وتقول:
- "راغب" أصلا كان عنده شركة مستقلة ولما بابا كان داخل صفقة كبيرة طلب يشاركه فيها وبعد ما إتقدم لـ" نشوى" وإتجوزها صفى شركته وحط فلوسه كلها فى شركة بابا ومن ساعتها وهما بيشتغلوا مع بعض
ألقى برأسهِ للخلف وأغمض عينيه فى سكون وقد آثر الصمت مرت أحلامه وأمنياته كالبرق وأخذت تدور بعقله تارة وبقلبة تارة وهو يتذكر أيامه الخوالى منذ سنوات عندما كان يعزف بآلتهِ الوترية فى هذا الحفل مرة وعلى هذا الشاطىء مرة لعل أحدا ً ما يكتشفه ويقدمه للوسط الغنائى ويتبنى موهبته ولكن كل محاولاته باءت بالفشل .
وفى كل مرة كان يعود أدراجه على الشاطىء حافى القدمين يقذف بهما الرمال هنا وهناك مصطحبا ً "جيتاره" الذى أصبح جزء لا ينفصل عنه دامع العينين خالى الوفاض وفى كل مرة تنهار أحلامه وتخبو شيئا ً فشيئا ً حتى جاء هذا اليوم ودُعى إلى الغناء فى حفلة بالجامعة وهناك رآها .
إنصرفت كل عواطفه تجاهها ربما لأنها المرة الأولى التى يرى فتاة تجمع بين مستوى إجتماعى رفيع وبساطة شديدة فى التعامل .. ليس من باب التواضع وإنما هى طبيعتها الشخصية ..
وخلال أيام قليلة كان قد تعرف إليها عن طريق إحدى صديقاتها المقربات وإندمج ببساطة بين مجموعة أصدقائها فى الجامعة وبين يوم وليلة أصبح " فنان الشلة " .. وأصبح من بينهن معجبات يحاولن الوصول إليه ولكنه إختارها هى من بينهن ليغنى لها وحدها ويزج بإسمها فى كلمات أشعاره بين الحين والآخر ..
إختارها بعقلهِ وقلبهِ سويا ً لتكون حبيبته وزوجته وفى نفس الوقت يحتضنه والدها ويضع قدميه على أول طريق النجاح الذى يبغيه ..
إستطاع أن يقترب ويحقق نصف حلمه ولكن النصف الآخر تحطم وتبعثر بقوة أمامه وتناثرت أشلاءه حينما رفض والدها وأنهى حواره بعبارته التى نقشت بسكين فى صدر أحلامه " أعتمد على نفسك وإحمد ربنا إنى وافقت عليك أساسا ً " .. والآن ها قد بدأ الحلم يزحف من جديد إلى النور ولكن !  لكل نجاح تضحياته وثمنه الذي يجب أن يُسدد أولا ً ..
والآن وجب عليه أن يختار إما هى وإما أحلامه التى ستتجسد أمامه أخيرا ً بعد أن كانت مجرد أمنيات .. فهل ننثر القلوب المحطمة يوما ً لنُعَبِد بها طرقنا المتهالكة ..!
***
 توالت الأيام تباعا ً تراجعت فيها الإتصالات الهاتفية بينهما وإنعدمت المقابلات نهائيا ً وفى كل مرة كان يتعذر بإنشغاله .. جلست أكثر من مرة تفكر وتبحث عن سبب ما يحدث وتتساءل ..
لماذا يصر على الإبتعاد ماذا فعلت ؟ ولماذا كان حزينا ً هكذا وهو يخبرها بموافقة شركة الإنتاج على بداية العمل معه وتحديد ميعاد توقيع أول عقد بينهما ؟
أيكون حزينا ً بسبب الفراق ؟ فلقد أخبرها أنه مضطر إلى ترك الأسكندرية والإنتقال إلى القاهرة ليكون بجوار عمله ولأن نقطة بداية الإنتشار الحقيقية تكون هى القاهرة .. كانت عيناه تقطر ألما ً صافحها وكأنه يودعها إلى الأبد .
شارف العام على الإنتهاء ولم يتبقى سوى أيام قليلة على بداية إختبارات السنة النهائية لها فى الجامعة وبدأت تشعر بتوتر غير طبيعى بمنزلهم ....أصبح الإنفعال والعصبية والتوتر هم عنوان المنزل .. إنزوت أكثر وزادت حيرتها ..  الجميع غير عاداته فجأة وكأنهم أصبحوا أشخاص آخرين الصمت هو لسان حالهم .. هناك شىء ما يحدث !!