الاثنين، 16 يونيو 2014

روايــة حكايــة حبيبــة .. الفصل الحادى عشر

روايـــــة حكايــــة حبيبــــة


الفصل الحادى عشر 



وقفت أمام خزانة ملابسه والفضول والحنين يفتكان بها ويصارعانها بقوة مشهران بوجهها سلاح الشوق .. رنات هاتفها النقال أخرجتها من معركتها الخاسرة فتوجهت نحو فراشه تلتقط الهاتف وتنظر من المتصل فى تلك الساعة المتأخرة .. أبتسمت حينما وجدتها صديقتها "ندى" التى لم ترها منذ أن غادرت الأسكندرية ولم تهاتفها إلا مرة واحدة عندما وصلت القاهرة ثم أنقطعت هنا حتى تلك اللحظة .. ضحكت "حبيبة" وهى تتلقى لوم وعتاب صديقتها ثم قالت :
- ده على اساس أن أنتى اللى بتسألى عليا يعنى
زمرت "ندى" شفتاها وهى تقول بهجوم طفولى :
- يا سلام هو انا اللى أتجوزت وقطعت علاقتى بصاحبى
أزدادت ضحكات "حبيبة" العفوية وقالت وهى تعتذر بمرح:
- آسفه جدا والله ظروفى كانت ملخبطة خالص يا ندى
قالت "ندى" بمكر:
- آه طبعا ملخبطة خالص بصراحه أنا عذراكى فى واحده تبقى متجوزه واحد زى جوزك ده وتفتكر نفسها حتى
عقدت "حبيبة" حاجبيها وقالت متسائلة:
- وانتى عرفتى جوزى منين ؟
هتفت "ندى" بنزق:
- أنا مفيش حاجه تستخبى عليا يا هانم ده انا اللى بعتهولك لحد عندك وأدتلوا عنوانك فى القاهرة
أتسعت عيني "حبيبة" وخفق قلبها وهى تقول بوجوم :
- مين ده اللى أدتيلوا عنوانى
وقع قلبها فى أخمص قدميها عندما قالت "ندى" بتلقائية :
- "حسام" جوزك
لم تتلقى جواباً فهتفت بقلق :
- "حبيبة" ؟ مالك هو أنا قولت حاجه غلط ؟
شعرت بالدماء تتصاعد فجأة إلى وجنتيها وعينيها وبدأ ألم فى مقدمة راسها يجتاحها وهى تقول بصوت مختنق :
- عرفتى اسمه أزاى مش فاهمه ؟
شعرت "ندى" بتوتر صديقتها وقالت بتردد:
- بعد ما سافرتى على طول قابلته بيدور على عنوانك ولما قولتله أنى صاحبتك وأنك نقلتى القاهرة صمم يعرف عنوانك ولما حس أنى قلقانه منه قالى أنه عاوز يتقدملك وأنه كان جاى مخصوص علشان كده .. ولما عرفت أنك أتجوزتى توقعت أنه يكون هو 

لم تدرى كيف أنهت الحديث مع صديقتها ذاهلة مما سمعت للتو .. هل بحث عنها وعندما وجدها كان إلى جوار رجل آخر ..ألهذا عينيه دوماً تحمل عتاباً صامتها بل غضباً مدمراً .. أستندت إلى خزانة ملابسه شاردة تتخبط بين ذكريات متداخلة مختلطة بدموع كرهت رعونتها وتسرعها فى الموافقة على الزواج من "خالد" .. لو كانت أنتظرت قليلاً فقط ..
 ألتفتت إلى الخزانة بحنين كبير وإشفاق على صاحبها  البائس  و فتحتها بيدان مرتجفتان ووقفت بالقرب من ملابسه المعلقة والمرتبة في الرفوف بابتسامة منتشية بطعم عبراتها المتسابقة إليه منها وهي تتلسمها بأناملها بخفة من الأعلي وحتي نهايتها ..
إنهارت مقاومتها تماما ودفنت وجهها بين ستراته تشعر بملمسه فيها وتستنشق رائحته الرجوليه الخاصة مغمضة العينين ..
ألن يكون رائعاً لو أنها أصبحت نسيجاً تتخلل ملابسه دون أن يشعر بوجودها .. سخرت من مراهقتها الرعناء وهي تفتح الأدراج السفلية من الخزانة وتعبث بمحتوياتها .. 

إرتفع حاجبيها فقد اصطدمت أصابعها بورقة سميكة ترقد في الأسفل مختبأة بين طيات الثياب .. سحبتها ببطء وفتحتها .. خفق القلب العطش بشدة وهي تتأمل الملامح المرسومة بداخلها بدقة .. سكن الكون للحظات إلا من دقات الساعة المعلقة علي الجدار  وعينيها تلتهم الكلمات القليلة المخطوطة أسفل الرسم
" منقذتي هي .. أم أنا من أنقذتها ؟ !!.. إحترت في أمري بل هو في الغالب أمرها
إقتحمت حلمي وغيبوبتى لا أعلم حتي اسمها .. فخططت بقلمي أعاقبها فوجدتني قد رسمتها ..
لست مراهقاً لأعشق حلماً ورغم ذلك عشقتها "
وذيل الورقة بتاريخ أول لقاء روحي بينهما .. في قاع النيل !!

غريبة هي تلك العلاقة التي كلما إبتعدا برغبتيهما جذبتهما مرة أخري بعنف ليصطدما ببعضهما البعض بضراوة ... إلى متى سيظل قلبى مذبوحاً فى محراب قربه البعيد !
وكأن انفعالاتها الجمة أرسلت إشارة إلي رحمها ببداية المخاض .. إنقباضات شديدة
 لم تتحمل ألمها المفاجئ .. قبضت علي ملابسه بقوة وسقطت بها وهي تصرخ
كان في تلك اللحظة يغلق باب الشقة خلفه وعندما سمع صرختها هرول للداخل مسرعاً وقبل أن يصل إلي غرفته اصطدم بوالدته تخرج من غرفتها بهلع تحول لصدمة عندما رأته !..
تخطي نظراتها المصدومة وأسرع إلي الداخل ..  اقتحم الغرفة فوجدها ملقاة أرضا بجوار الخزانة تئن  من شدة الألم  .. إنحني بلوعة تجاهها وهتف باسمها وهو يحملها بين ذراعيه .. تشبثت به كغريق وجد النجاة بقرصان بائس !

حاولت والدته أن تتعامل مع الموقف وتوجهه وهي تتناول هاتف حبيبة قائلة:
- مفيش وقت نزلها العربية علي ما اتصل بالدكتورة وأغير هدومي
وفي الأسفل ساعده حارس العقار وفتح له باب السيارة الخلفي .. وضعها برفق وظل يجفف جبينها المتعرق بقلق شديد حتي شعر بيد والدته توضع علي كتفه من الخلف وهي تقول :
- يالا يا حسام

إنطلق بسرعة كبيرة وهو ينظر إليها بين الحين والآخر في مرآته وأنينها يشق صدره ووالدته بالخلف إلي جوارها تهتف به أن يخفف سرعته قليلا ً .. نسي فى تلك اللحظة أنها تعانى وجع مخاض من رجل آخر كل ما تذكره أنها تتألم وكان ذلك كافياً لتلتهم سيارته المسافات ألتهاماً
وصل المشفي قبل الطبيبة بدقائق .. أحضر له أمن المشفي كرسي متحرك ووقفت والدته أمام موظفة الإستقبال التي قالت ببرود لا يتناسب مع الموقف الحرج :
-  آسفين يا فندم مينفعش نستقبل المريضة قبل ما الدكتورة تكلمنا وتقولنا أوكيه
زفرت نور بعصبية هاتفة:
-  ما قولتلك كلمناها قبل ما نيجي وبحاول أكلمها قدامك أهو ومابتردش هاتسبوها تموت يعني لحد ما الدكتورة تيجي

إستند طبيب حديث السن بمرفقه إلي الجدار وهو يؤكد كلام الموظفة بنفس البرود وقبل أن ينهي كلمته كانت قبضة حسام تمسك بتلابيبه وتجذبه إليه وهو يصيح فيهما :
- هي أرواح الناس لعبة  في إيديكوا  
حاول الطبيب التفلت منه وهو يبادله الصياح:
- كدة .. طب خد بقي مراتك واتفضل من هنا
أخذ بعدها ما يستحقه تماماً .. لكمة في أنفه كانت كفيلة بإدمائها والإطاحة به وتحطيم نظارته الطبية .. تجمع العاملين حولهما وتدخل الأطباء الكبار في الحال وصعدوا بها للأعلي  وتبعتهم " نور" ثم "حسام" الذي نظر للطبيب وللموظفة متوعداً
وقبل أن يستقل المصعد خلفهم لحقت به إحدي الممرضات قائلة بخوف من ردة فعله التى رأت نبذة عنها منذ قليل :
- معلش يا فندم ممكن بس البيانات علشان الموظفة تسجلها عندها؟
لم يكن يعلم ماهي البيانات المطلوبة علي وجه التحديد فأعطاها بطاقته الشخصية فقالت بتعثر:
- وبيانات المدام
قال بحيرة ممزوجة بالغضب البارد:
- مش معايا دلوقتي تعالي خديهم من فوق

صعدت معه بحذر فى المصعد وهى تفكر فى ذلك الإعصار الساكن بجوارها .. تناولت بطاقة "حبيبة" الشخصية من " نور" وانصرفت علي الفور بخطوات تقترب للعدو وقد أنجزت تلك المهمة المستحيلة التى كلفتها بها الموظفة المذعورة
****
للمرة الأولي تشعر بسعادة حقيقية وبمعنى حقيقي لوجودها فى تلك الحياة وهي تحمل ابنتها بين يديها دامعة العينين تداعبها بلطف ورقة .. شعرت بمعنى أن ينتمى لها شخص ما يحتاج إلى رعايتها فهل يوماً ستجد من تنتمى إليه وتختبىء خلفه مطمئنة من عوادى الدنيا وطمع المقربين .. إقتربت "سلمي" منهما بابتسامتها الطفولية وحاولت حمل الصغيرة وهي تقول:
- هاتيها ألعب بيها شوية يا "حبيبة"
قالت نشوي بضجر:
- ياسلام اشمعني ابني يعني مبتلعببش معاه

لوت سلمي شفتيها بينما مسحت والدتها علي رأس الصغيرة وهي تقول باهتمام:
- مين اللي سماها "حنين"
وقبل أن تجيبها  "نور" قالت "حبيبة"  علي الفور:
- أنا و "خالد" اتفقنا علي الاسم ده
ثم تابعت متسائلة:
- هو بابا فين ؟ .. مجاش معاكوا ؟
تفحصتها "نور" بعيناها باحثة عن شىء ما وجدته بعيني ولدها وهما يقفان خارج حجرة الجراحة وهي تقول بهدوء:
- مع "حسام"  بره .

أغمضت عينيها وأرخت رأسها إلي الوسادة الكبيرة خلف ظهرها تاركة الطفلة بين يدي والدتها مطمئنة إلى وجوده فى الخارج وهي تفكر في حديث الممرضة التي دلفت معها إلي الحمام تساعدها في تبديل ملابس الجراحة وظلت تتكلم بتلقائية كبيرة وهي تصف لها مدي قلق "حسام" عليها وهي في غرفة الجراحة عندما أخبرتهما الطبيبة أن الولادة متعثرة وينبغى إجراء جراحة قيصرية لإنقاذ الوضع فى الحال وبقيت صامتة تستمع إلي استرسالها في الحديث ظنا ًمنها أنه زوجها  ..
مازال الجرح أسفل بطنها يؤلمها بشدة ولكن الألم الحقيقي كان بسبب غياب زوجها في موقف كهذا تاركاً غيره ليقوم بدوره في غيابه والغريب أنه يقوم به بإتقان كما لو كان دوره هو حقاً
عادت إلى واقعها عندما لفت انتباهها صوت " نور" وهي تجيب هاتفها وتتحدث إلي "حسام" بنبرة حادة مختلفة عن عادتها في الحديث معه قائلة:
- قولتلك خاليه يدخل مفيش مشكلة

دخل "راغب" بصحبة والدها وبقي "حسام" عند الباب خلف الجميع يراقب تصرفات "راغب" عن كثب ... وبعد دقائق تقدم باتجاه " فريدة " والدة " حبيبة " وهو يهم بحمل الصغيرة قائلا:
- تعالي يا " حنين " وحشتيني يا روحى
ابتسم الجميع وهو يأخذها ويبتعد بها ليعود إلي مكانه في الخلف منشغلاً بالطفلة عنهم أو هكذا تظاهر بالإنشغال وخصيصاً عن تلك الأعين التى تراقب أبتسامته فى الخفاء وهو يداعب أبنتها بحنان فبرغم مظهره العبثي الشعث ووجه المرهق إلا أنه بدا أكثر جاذبية عن ذى قبل !
بينما قالت " نشوي" بفضول:
- لما إنت بتحب الأطفال كده مأجلين الخلفه ليه؟

إمتقع وجه "هدي" وهي تقول:
- أحنا مش مأجلين الخلفه بس لسه محصلش نصيب
 رفعت " نشوي" حاجبيها وهي تتابع متسائلة:
- معقول؟ ... طب مروحتوش لدكتور ؟
ضاق منها ذرعاً ولكنه أراد أن يحسم الأمر فقال بفتور دون أن ينظر إليها:
- روحنا طبعا ومحدش فينا عنده مشكلة تمنعه من الخلفه ..  زي ما قالتلك كده لسه محصلش نصيب
لمعت عيني "هدي" بالدموع وإستاذنت منهم وانصرفت .. تبعها "حسام" في الخارج وهو مازال يحمل الطفلة .. أوقفها في الممر الطويل وحاول تهدأتها :
- متزعليش نفسك دي واحدة حشرية
قالت بعصبية:
- إنت بتكلمني بشفقة كده ليه زي ما يكون العيب فيا

حاول أن يتحكم بأعصابه وقال وهو يضغط أسنانه:
- قولتلك مليون مره متعاليش صوتك وانتي بتكلميني 
نظرت إلي الطفلة ثم عادت بنظرها إليه وقالت بضعف:
- تلاقيك بقي حنيت للأطفال وممكن تكون بتفكر تتجوز علشان تخلف
رفع رأسه للأعلي وتنفس ببطء قبل أن يجيبها:
- جواز ايه بس وبعدين انتي بتفكري كده ليه هو انتي فيكي مشكلة علشان تقولي كده ؟ ! ..  بكره لما ربنا يأذن هنخلف شيلي الكلام الفاضي ده من دماغك .. ممكن ؟

تماسكت وعادت إليها قوتها المتعجرفة وهي تخرج هاتفها قائلة:
- طب أنا هاخد العربية وهقابل "سمر" وبعدين نروح عند ماما
أومأ برأسه موافقاً وهو يقول:
- ماشي بس متتأخريش .. أنا مش عارف هاروح إمتي اديكي شايفه "خالد" مش موجود ولازم أفضل معاهم

إنصرفت "هدي" بينما قطع هو الممر إلي الغرفة مرة أخري وقبل أن يصل إليها سمع ممرضة تناديه فتوقف والتفت إليها
مدت يدها بورقة متوسطة الحجم وتحدثت معه قليلا ًوانصرفت فرحة بعد أن نقدها ورقة مالية كبيرة .. جلس إلي أحد المقاعد وهو يقرأ ما دون بداخلها .. إخطار ولادة .. ضم "حنين" إلي صدره برفق وحنان بالغين وهو يقرأ أسم الأب الذي دون بالخطأ خلف اسمها بصوت مسموع  .. "حنين حسام مصطفي الصياد" 

مشاعر جمة عصفت به .. نعم هو يعرف أنه حدث خطأ ولكنه أحبه وبشدة ..أحب أن تنتمي إليه ولو لساعات فقط ولو بالخطأ ..إنه يعني له الكثير ..أرتسمت أبتسامة عبثية على شفتيه إلا أن  صوت "راغب" إنتزعه من بين  أشواك غرامه وخياله الثائر وهو يقول ساخرا:
 - مبروك .. اللي جابلك يخاليك يا حسام باشا

رفع رأسه إليه وقد نحي عاطفته جانبا وهوينظر إلي عينيه نظرات حارقة قائلا:
- أنا مش سبق وقلتلك تتجنبني خالص يابني آدم إنت
أشار "راغب" إلي الورقة بين أصابع "حسام" وهو يرفع كتفيه مصطنع البراءة وهو يقول :
- أعمل إيه بس يا باشا القدر هو اللى بيحطني في سكتك دايما
قهقه حسام ساخرا وهو يقول:
- إيه جاي تبتزني المرادي بإخطار ولاده إتكتب بالغلط ؟
نظر "راغب" إلي الطفلة ثم نظر إلي "حسام" بمكر قائلا:
- متأكد إنه بالغلط يا باشا ؟
ثم استدرك بخفوت خبيث:
- شبهك أوي علي فكرة

 كان سيتلقي لكمة مشابهة للتي تلقاها في المرة الأولى عندما إبتزه فى مكتبه بالحديث الذى دار بينه وبين "حبيبة" فوق متن السفينة ولكن باب الغرفة فتح وبدأ الزوار في الرحيل .. رحل "راغب" معهم وعلى شفتيه ابتسامة مقهورة .. حسام ليس بالصيد الهين ابداً .. كيف ابدأ بالصياد وأترك الفريسة ؟!.. تبدلت ابتسامته إلى آخرى ماكرة .. بالتأكيد ستكون هى الأسهل حينما يقرر ألتهامهاً .. ولكن فى الوقت المناسب

لم يبقي سواه ووالدته .. بقي هو في الخارج وحيداً يعبث بجهازه المحمول يمرر أصابعه فوق شاشته بلا هدف حتي حل المساء بصحبة "خالد" الذي حضر علي الفور عندما  فتح هاتفه وقرأ رسالة
" نور" وهي تخبره بخبر وضع زوجته وتدعوه للمجيء في الحال ..
أمطرت عينيه زخات متواليه من الدمع الغزير وهو يحتضن ابنته مقبلاً أطراف أصابعها الصغيرة معتذرا لها وحدها عن عدم حضوره لحظة خروجها للحياة
عقبت حبيبة بعتاب قائلة :
- طب وأم حنين مالهاش نصيب من الإعتذرات دي كلها ؟

ابتسم وقبل يدها معتذرا ً ثم عاد سريعا ً بكيانه كله لابنته متأملاً ومداعباً مما جعلها تشعر بالحرج أمام " نور"  و"حسام" الذي أخرج الإخطار ماداً به يده إلي "خالد" قائلا :
- حصل غلط في البيانات .. إبقي إنزل صلحه تحت علشان أنا عامل معاهم مشكلة أصلاً
إبتسم "خالد" وهو ينظر إلي الأسماء المدونة بالخطأ وقال ممتناً
- متشكر أوي يا "حسام" علي وقفتك دي
قال حسام شاردا ً وهو يتأمل "حنين" قائلاً:
- متشكر علي إيه يا "خالد"  حنين بنتي زي ماهي بنتك

تنحنحت " نور"  وهي تلتفت إلي "حسام" قائلة بحسم:
- كفاية عليك كده بقي إنت صاحي من امبارح .. يالا روح إرتاح شوية
 نظر إلي "حبيبة" نظرة طويلة ثم قال بهدوء:
- حمد الله علي سلامتك
تعمدت أن لا تتلاقي عينيهما وهي تجيبه بخفوت وخجل:
- الله يسلمك
تنحت "نورا" جانباً مستغلة إنشغال "حبيبة" بطفلتها تهدهدها لتنام على صدرها وأمسكت بذراع "خالد" لتجذبه إليها قليلاً وهى تقول بضيق:
- كنت فين يا "خالد" ؟
همس وهو يلتفت إليها بدهشة :
- ما أنتى عارفه يا عمتو .. كنت مسافر

ضيقت ما بين عينيها وهى تضغط ذراعه بغضب خافت قائلة:
- أنت هتستهبل يا "خالد" أنت فتحت تليفونك وقريت الرسالة قبل ما تيجى هنا بنص ساعه بس
تنحنح وهو يحاول تأليف كذبة ما وقال بخفوت متعثر بين كلماته :
- أصلى كنت جاى فى الطريق .. وشوفت الرساله..
نهرته بعينيها بصمت فبتر عباراته المشوهه وتركها عائداً إلى مقعده بجوار فراش زوجته ممسكاً بأنامل الصغيرة بتوتر وهو يحاول تحاشى النظر إلى عمته التى علمت الآن إلى أى مدى ترك "خالد" زوجته تعانى فراغ وتخبط قد يملأه آخر دون عناء ! .. لو كان هذا الآخر شخص لا تعرفه لصبت جام غضبها على "حبيبة" أما وقد عرفته فلابد وأن يأخذ غضبها منحاً آخر .. منحاً يستحقه  
***
دخل بيته فوجدها غارقة في نوم عميق أغمض عينيه براحة وهو يغلق باب غرفة النوم بهدوء فهو لم يكن في حالة تسمح بالحديث معها أو مع غيرها وخصيصاً بعد تلك الرسالة التى تلقاها وهو فى طريقه إلى المنزل  .. تلك الرسالة الغريبة التى قرأها بعينين ذاهلتين لا يكاد يصدق ما بها " أنا عارفه أنت عاوز أيه وهساعدك بكل جهدى بس لكل شىء تمن وانا مش عاوزه غير رضاك .. فكر ورد عليا .. نشوى " !!  .. لم يكن أحمقاً إلى حد التصديق الحرفى لكل كلمة كتبت بها ولكنها فرصة تستحق التفكير على الأقل !

هبط إلي الطابق الأسفل حيث حجرة مكتبه الذى دلف إليها ..  أغلق المصباح الضعيف الذي كان بالكاد يضيئها فسبحت الحجرة في ظلام دامس ..
 جلس إلي الأرض مستنداً بظهره إلي أحد جانبي المكتب الخشبي الكبير أسفل النافذة وعقد أصابع كفيه خلف رأسه مستنداً إلي ركبتيه وراح يسقط في بئر مظلم لا آخر له تتخبطه مشاعره بين الوفاء والخيانة والحب والغيرة والغضب ..
ومشاعر الأبوة الغريبة التي طرأت عليه عندما حملها لأول مرة بعد ولادتها مباشرة ..

لقد شعر أنها ابنته حقا ولم لا فهي تشبهه إلي درجة كبيرة .. ثارت مشاعره في تلك اللحظة وفاضت هنا إلى حد الغليان  .. هل كانت تفكر بي إلي هذا الحد هل ضاعت منها ليالي طويلة شاردة مع ذكرياتنا القليلة معاً .. نقشت فنار ملامحى بداخلها وصارت ترحل منها وإليها فى رحلة إبحار ليلية .. تتخبط بين جدائلها وجهتها نحوي ذاتيه .. معذبتي هي أنثى القمر دمعتها دوماً ساديه .. حرر يديه وزفر بقوة ثم ضرب خلف رأسه إلي المكتب يريد أن يحطمها .. صراعاً وحشي يدور بداخلها لا يهدأ ولا ينام .. لا يريد أن يخون ولكن ماذا يفعل بقلبه .. إلي متي هذا العذاب إلي متي ؟

****

 في الصباح أيقظته هدي بهزات قوية جعلته ينتفض جالساً بالكاد يفتح عينيه بصعوبة هاتفاً:
- إنتي مش هتبطلي طريقة المخبرين دي بقي .. نفسى أحس إنى نايم فى بيتى مش فى العنبر  
عقدت ذراعيها فوق صدرها تزفر متسائلة:
- إنت إيه اللي نيمك هنا في المكتب؟
مسح وجهه ليزيل آثار الإرهاق البادية عليه قائلاً:
- كان عندي شغل وراحت عليا نومة .. هي الساعة كام دلوقتي؟
أشارت إلي الساعة المعلقة وهي تقول:
- سته ونص

ابتسم بسخرية وهو يضرب كفا بكف وهو يقول :
- المفروض بقي ألحق الطابور بدل ما تدوريني مكتب
رفعت حاجبيها بدهشة عندما تابع وهو ينهض ويؤدي التحية العسكرية قائلاً:
- تمام يا حضرة الصول
زفرت بضجر وهي تراه ينصرف ساخراً ..  ولم تتعجب الآن فهما يتجادلان هكذا دائما منذ أول يوم لهما سوياً ..
هو يريدها رقيقة مشاغبة عفوية وتلقائية وهي تريده منضبطاً لأقصى درجات الإنضباط كما كانت ترى والدها دوماً .. أرادت أن تزن حياتهما بميزان الضبط والربط ..  كل شيء بميعاد حتي أوقات الحب تضع لها جدولا ومواعيد !! ..  فكيف ستتفق مع رجلاً ينسى نومه ويؤجل طعامه ولا يقوي علي تأجيل رغباته المتقدة دوماً
***
 كان علي يقين أن والدته قد قضت ليلتها في المشفي بجوار "حبيبة" وهو يغلق الباب خلفه ويلقي التحيه علي الخادمة التي كانت تقوم بأعمال التنظيف في غرفة المعيشة وأسرع إلي غرفته وهو يتمني أن لا تكون الخادمة قد بدأت بها ..
 ابتسم عندما وجدها علي حالها كما تركها .. كل شىء كما هو مبعثر على أثر سقطتها .. أوصد الباب خلفه واتجه إلي خزانته يتفحص الملابس والصورة .. وجد ما كان يتمناه .. أثر شفاهها بلونها الوردي مطبوع فوق أحد ستراته بشكل غير مقصود ..
 لقد قبلتها ولم تلحظ الأثر وتذكر الممرضة وهى تخرج من غرفة الجراحة مقبلةً عليه بابتسامة واسعة وهى تحمل الصغيرة بين يديها وتضعها بين ذراعيه وهى تقول :
- ألف مبروك يا "حسام" بيه بنوته زى القمر ..
وعندما سألها عن "حبيبة" قالت :
- المدام كويسه الحمد لله .. طول ماهى فى البنج بتنادى على حضرتك ربنا يخاليكوا لبعض

إشتم رائحتها بقوة بين ملابسه مغمض العينين وهو يتخيلها تحتضن ستراته وتقبلها بحب مبتسمة .. أخذ سترته وذهب إلى فراشه وجلس علي طرفه وأخذ يتحسسه .. لقد كانت هنا .. هل احتضنت ملابسي أولا أم نامت في فراشي في البداية .. من أين  بدأ الشوق ياترى  ؟ 

لمعت عينيه غراما ولهفة وبدأ شيطانه يلعب برأسه ونفسه تزين له الأمر .. وقبضته تسحق ملابسه بداخلها سحقاً عنيفاً
إنها لي منذ البداية ...هو من اقتحم حياتها وفرق بيننا ...هو من خانني ويخونني ..خطفها وأبعدها عني .. تركته مرة وفرطت فى حقي أما الآن فلا .. فهى لي ..ملكي وحدى .. مهما حدث .. ومهما كانت الخسائر.



الجمعة، 6 يونيو 2014

رواية حكايـــة حبيبـــة ... الفصل العاشر

روايــــة حكايــــة حبيبــــة


الفصل العاشر






الشوق حتى الألم .. هذا ما شعُرت به فور معرفتها بوجهتهما !.. تململت بإنزعاج فى مقعدها بالطائرة وهو يقص عليها بحماس ترتيباته التى خطط لها ليفاجأ ابن عمته بالسفر إليه هو وعروسه بل والحجز فى نفس الفندق أيضا ً .. كادت أن تصرخ برغبتها بالعودة ولكن كيف ذلك لقد حلقت الطائرة وانتهى الأمر .. لاحظ شرودها والتعاسة البادية على وجهها رغم زينتها المتقنة .. تناول كفيها بحرص وضغط عليهما معتذرا ً بهمس:
- أنا آسف على اللى حصل منى إمبارح صدقينى ماكنتش فى وعيى
توردت وجنتيها حرجا ً محتفظة بابتسامة باهتة احتلت شفتيها كلما حدثها وهى تجيبه بخفوت:
- متأكده من كده
ابتسم ممتنا ً لتفهمها وهو يعتدل مستندا ً إلى ظهر مقعده باسترخاء شديد مغمض العينين بعد أن ترك يديها تتسلل مغادرة راحتيه بهدوء .. كان حماسه شديد لتلك الرحلة فهى المرة الأولى التى يقضى فيها إجازة خاصة منذ زمن ليس بالقصير ولكن هذه المرة هو ليس وحيدا ً ليفعل ما يشاء كما يحب .. هذه المرة بصحبته عروسه الحديثه التى تزوجها بالأمس فقط .. لاشك إنه يحب تلك الرحلة لقضاء شهر عسل مميز وفى بلد مميزة ولكن لا ضير أيضا ً فى أن يختبر جاذبيته لساعات قليلة بعيدا ً عنها فلربما حظى بلحظات مميزة أيضا ً تكتب فى سجل مغامراته الحافل و فى بلد جديدة يسافر إليها لأول مرة مما يشعره بالإثارة والتحدى ولم يكن باستطاعته تركها وحدها إن لم يكن معها ما يلهيها عنه وينسيها أمره إلا صحبة "هدى وحسام "  فهل سيفعل؟!  
***
الصدمة حتى الذهول .. هذا هو ما جعله يتصلب مكانه عندما وقعت عينيه عليهما فى بهو الفندق .. نظر حوله ليتأكد من أن أحدا ً لن يلاحظ  فراره إلا أن صوت "هدى" أوقفه وهى تتأبط ذراعه بيد وتلوح بيدها الأخرى لهما .. خرج صوتها فرحا عاليا ً رغما ً عنها وهى تجذبه باتجاه المكان المخصص من البهو للاستعلامات عن الحجز وقبل أن يتفوه بكلمة سمعها "خالد" فنظر إليهما وهو يلوح بيده لهما غامزا ً بعينه لـ"حسام" زهوا ً بذكاءه ونجاح مخططه ..
لقد سمعت هى الأخرى نداء "هدى" ولكنها اختلقت حديثا ً ما مع موظفة الإستقبال حتى لا تلتفت إليهما .. لا تريد أن تقع عينيها عليه بهذا الشكل .. تريد أولا ً أن تستمع إلى صوته ثم تلتفت تدريجيا ثم تراه بشكل كامل .. شعرت فى تلك اللحظة بمدى حمقها فابتسمت رغما ً عنها ساخرة من نفسها .. أيتها البلهاء هل تظنين أنك سيغشى عليك لمجرد رؤيته دفعة واحدة ؟! .. وحتى وإن تصنعت عدم رؤيته هل تستطيع منع حواسها من الشعور به ! ..
عانقه "خالد" طويلا ً بينما رحبت بها "هدى" مقبلة إياها بسعادة كبيرة فلقد وجدت أخيرا من سيهون عليها سفرها هذا ويتحدث إليها على الأقل .. كان لابد من مصافحتها ولكنه لم يفعل إكتفى بأن أومأ برأسه بابتسامة خاوية مرحبا ً بها ..
وقفت "حبيبة" ترتب ملابسها وتعلق أثوابها الطويلة بذهن مشغول وعينين شاردتين منتظرة عودة " خالد" الذى أستأذن منها وخرج من الغرفة متعللا ً برغبته بالإنفراد بـ"حسام" قليلا ً .. طابعا ً قبلة صغيرة على وجنتها وهو يعدها بعدم تأخره ..
أبدلت ملابسها وأغلقت الستائر واستلقت فوق الفراش الوثير الذى غاص بجسدها للأسفل هو ووسائدة المريحة مما أعطاها شعور بالإحتواء والراحة .. كانت فى حاجة شديدة إلى النوم والإسترخاء بعد هذا التوتر الشديد الذى شعرت به منذ أن رأته فى البهو بالأسفل .. تململت فى الفراش قليلا ً حتى استطاعت الإستغراق فى النوم لتذهب فى أحلام أكثر توترا ً جعلتها تستيقظ سريعا ً متعرقة ..
جلست تتنفس بصوت عالى وهى تنظر حولها بقلق شديد وأخيرا ً استوعبت أنها كانت تحلم وأن "خالد" لم يحضر بعد .. من الواضح أن ليلة أمس تركت أثارها فى ذاكرتها وكانت سببا ً فى كابوس جديد رأته أثناء نومها .. تناولت هاتفها النقال ونظرت إلى الساعة فرفعت حاجبيها مندهشة .. لقد مر عليها ثلاث ساعات كاملة !  مروا كالبرق كـ ثلاث ثوان أو دقائق على الأكثر
نهضت بتكاسل لتجلس فوق المقعد المجاور للفراش وهى تضغط جانب رقبتها الأيمن براحتها وباليد الأخرى تحاول الإتصال بـ"خالد" لقد تأخر كثيرا ً وقد بدأت معدتها تتوعدها وتنذرها بصرخة قوية إن لم تستجب لهمسها وتطعمها على الفور مرت عدة دقائق أخرى تتصل بإلحاح حتى أجابها فى النهاية معتذرا ً عن تأخره :
- أنا آسف يا حبيبتى معلش الكلام خدنا شوية
أتاه صوتها خجلا ً وهى تقول بتردد:
- طيب أنا جعانه أوى
صدرت منه ضحكة قصيرة وقد أدرك خجلها من أن تطلب طعام فى الغرفة قبل أن يأتى .. ثم قال:
- طيب إجهزى وأنا هاجى أخدك كمان ساعه فى هنا مطاعم جبارة
أبتسمت وهى تنهض بحماس شديد لتستبدل ملابسها على عجلة من أمرها .. إختارت ملابس بسيطة ذات ألوان فاتحة بألوان السماء المحملة بالغيوم  وجعلت زينتها أبسط تكاد لا تُرى وعقصت شعرها خلف رأسها تاركة خصلة صغيرة وحيدة تنسدل فوق جبينها مما أعطاها مظهرا فاضت منه البساطة والإستعداد لمغامرة ما فى تلك البلاد التى وقعت فى غرامها من أول وهلة .. إنتهت من وضع لمستها الأخيرة ونظرت فى الهاتف  ..
لم تمر الساعة بعد مازال أمامها بعض الدقائق الأخرى .. قررت أن تتحرك وتنتظره فى بهو الفندق فلا داعى من تضيع الوقت فى بعض الشكليات التى لن تساهم فى إسكات الجوع الشديد الذى يضرب معدتها بضراوة .. ضغطت أزرار المصعد ثم عدلت عن الفكرة بابتسامة حماسية واتجهت إلى السلم الواسع وقررت النزول قفزا ً كما كانت تفعل أحيانا ً فى منزلها بالاسكندرية .. وعندما وصلت للأسفل وجت نفسها على بُعد خطوات من المصعد ومن "حسام" الذى كان يتحدث بضيق إلى "خالد" وقد وقفا فى إنتظار عودة المصعد إليهم مرة أخرى .. كان يتحدث إليه بصوت مرتفع ولا أحد منهما يلحظ وقوفها على بعد خطوات منهما وتستمع إلى كلمات "حسام" القليلة التى جعلتها ترتد إلى الخلف وكأنها لكمتها بقوة وهو يعنف "خالد" قائلا ً:
- والله أنت ما عندك دم  بقى سايب مراتك ورايح تتسرمح ومن أول يوم فى شهر العسل
إذن فهو لم يكن معه كما قال لها فلماذا تركها بتلك السرعة وكذب عليها .. لم تنتظر كثيرا ً فلقد جاءتها الإجابة الشافية على لسان "خالد" وهو يقول :
- متحبكهاش بقى  يا أخى دول هما يومين هشوف نفسى فيهم ولما نرجع مصر أبقى أهتم بيها يا سيدى هى هتروح فين يعنى
وصل المصعد فى تلك اللحظة واختفيا بداخله .. جرت قدميها بعيداً نحو بهو الاستقبال وجلست على أقرب مقعد صادفها تجاهد تساؤلاتها المتزاحمة برأسها .. كلمات "خالد" غير واضحة هل كان يقصد امرأة أخرى أم لا يزال يظن نفسه عازبا ً ويريد التمتع بأكبر قدر من الحرية قبل الدخول فى حياة أخرى بها ما بها من المسئوليات ولكن فى كلا الحالتين هناك مؤشر ما يشير بقوة إلى زهده فيها وعدم شغفه بها ومنذ اليوم الأول لهما معا ً ..
ثواني أخرى وأتاها رنين متواصل يصدح به هاتفها بلا توقف .. قررت عدم البوح بما سمعت منذ قليل والانتظار قليلا ً حتى تتأكد من أحد الأمرين وأجابته بهدوء :
- أنا تحت فى الريسبشن
دقيقتان ووجدته يخرج من المصعد متجه إليها وما أن وصل إليها حتى قال بقلق واضح:
- قلقتينى عليكى يا "حبيبة " مقولتيش ليه إنك هتستنينى تحت
تفحصت وجهه للحظة .. يبدو عليه القلق بالفعل هو صادق فى كلماته .. قالت بابتسامة مرحة :
- خلصت بدرى قولت أتحرك شوية فى المكان
ثم تابعت وهى تضع يدها على معدتها :
- يالا بقى أنا هموت من الجوع
ضحك وهو يمسك كفيها بحنان قائلا ً:
- حاضر والله بس استنى ثوانى زمان "حسام وهدى " نازلين
توترت وعبثت بخصلة من شعرها متسائلة :
- إيه ده هما هايجوا معانا ؟
أومأ برأسه وهو يراقب هبوط المصعد قائلا ً:
-  "حسام" يعرف البلد هنا أكتر منى وبعدين الخروجة الجماعية بتبقى لذيذة
لم يكن هناك متسع من الوقت لإثارة مناقشة تُعلن فيها رفضها لإقتراحه فما أن أنهى عبارته حتى توقف المصعد وخرج منه "حسام وهدى" وسط مجموعة صغيرة من نزلاء الفندق واتجها إليهما مباشرة .
صمتت وهى تتوجه ببصرها تجاه "هدى" وحدها مستقبلة إياها بابتسامة ودودة .. كان وجوده معها فى مكان واحد كافى لإثارة توترها وحنقها معا ً فلم تستطع أن تستمتع بالغذاء الشهى الذى وضع أمامهم فى أحد المطاعم الشهيرة القريبة من شارع الاستقلال الممتد من ميدان تقسيم أحد أشهر المناطق السياحية بالعاصمة والذى يعج بزخم دائم يوميا ً من الزوار قد يصل إلى الآلاف منهم ..
بعد الغذاء مباشرة أخذهم "حسام" فى جولة طويلة داخل الساحة بدءا ً من النصب التذكارى وحتى مركز التسوق والذى قضى على مالديهم من وقت وجهد بل وأموال أيضا ً ! وأنهاها بالترام القديم الذى أقلهم بدوره إلى برج غلتا أحد أشهر المعالم التاريخيه فى اسطنبول .
ألقت "هدى" جسدها المنهك فوق الفراش وأغمضت جفنيها بإرهاق وهى تقول مبتسمة:
- رغم أنى شوفت الأماكن دى كتير لكن استمتعت النهارده جدا
وعندما لم تتلقى إجابة فتحت عينيها فوجدته يبدل ملابسه فى وجوم شديد .. لم يسمعها منذ البداية ولذلك لم يعقب ! .. زفرت بقوة وهى تُعيد غلق عينيها مرة أخرى وهى تقول حانقة:
- اللى يشوفك وانت عمال تتكلم بره ميشوفكش وانت مبتردش حتى على كلامى
إلتفت إليها وهو يقترب من الفراش معتذرا ً:
- معلش يا "هدى" دماغى مشغولة شوية
مطت شفيها بحنق فاستند بمرفقه فوق الفراش مبتسما ً ابتسامة واسعة وهو يقول :
- طب متزعليش تحبى نروح الشط بكره ؟
***
ابتسمت وأغمضت عينيها تاركةً الهواء يعبث بشعرها ليتناثر حول وجهها فى غير ترتيب والمياه تضرب عقبيها وتُدغدغهما برقة وهى تُفتت بعض الرمال تحت قدميها .. تنفست بعمق وسعادة وهى تستنشق رائحة البحر تتغلل إلى رئتيها فتذكرها بوطنها الأول " الأسكندرية" ! وأصوات الطيور تتناغم مع هدير البحر لتكتب سيمفونية عذبة بمداد من الطبيعة الخلابة حولها .. هل نعشق الأماكن وتسكنها قلوبنا حتى وإن لم تطئها أقدامنا فى يوم من الأيام ؟! .. اقتربت "هدى" ببطء منها وقالت بمرح:
- أول ما شوفتى الميه نسيتى نفسك يا "حبيبة"
أجابتها دون أن تلتفت :
- طول عمرى بنسى نفسى قدام البحر
ثم التفتت إليها برأسها وهى تنزع نظارتها الشمسية مردفة بمرح:
- بس مبعرفش أعوم
رفعت"هدى" حاجبيها مندهشة قائلة:
- معقول ! .. اسكندرانية ومبتعرفيش تعومى
ضحكت "حبيبة" وهى ترفع كتفيها بطفولة وهى تقول:
- بلبس المايوه وبنزل فى الميه لحد وسطى بس
تبادلتا الضحكات المرحة للحظات قبل أن ينضم إليهما "خالد" ووقف بجوار "حبيبة" ثم أحاط كتفيها بذراعه وهو يقول متسائلا ً:
- مش هتنزلوا الميه ولا إيه ؟
أشارت "هدى" إلى أحد الكبائن الصغيرة موجهة حديثها إلى "حبيبة" :
- شايفة الكابينة دى اللى ورا "حسام" على طول .. ممكن تغيرى فيها براحتك متقلقيش
وقبل أن تستدير لتذهب قالت متسائلة:
- وانتى يا "هدى" مش هتغيرى
حركت "هدى" رأسها نافية وهى تقول بتلقائية:
- لاء معلش يا "حبيبة" أنا أصلى مبحبش المايوهات وبعدين أنا متعودة أقعد أقرا كتاب قدام البحر روحى انتى ..
وما أن ابتعدت خطوات قليلة حتى وجدت "خالد" يلحق بها وما أن أوقفها حتى قال بنبرة معتذرة:
- معلش يا حبيبتى هسيبك بس نص ساعة وهرجعلك على طول مش هتأخر
أمسكت ذراعه وقطبت جبينها وهى تهتف بضيق:
- تانى يا "خالد" هتسيبنى تانى وتقولى نص ساعة .. هتروح فين يا "خالد" ؟
تناول راحتيها وقبلهما فى سرعة قائلا ً :
- أنا عارف إنى غلطان بس هعمل إيه الراجل ده يدوب اتعرفت عليه امبارح وهينفعنى أوى فى شغلى .. نص ساعة بس مش هتأخر ماشى .. يالا سلام خالى بالك من نفسك
قال كلماته الأخيرة وهو يلوح لها مبتعدا ً على الفور .. نادته مرة أخرى فلم يجيبها وقد ابتعد خطوات كثيرة كافية بأن تجعله يدعى عدم سماع صوتها الذى ذهب أدراج الرياح .. أرادت أن تغسل حيرتها وضيقها بين الأمواج   ففى كل يوم وكل ساعة تكاد توقن أنها ليست عروساً تثير شغف زوجها بل بفتور وبرود يجمدها ويدفعها إلى ذاك الإحساس القاتل بعدم الثقة بكونها أنثى مستحقة أكثر من هذا بكثير .. أسرعت بها خطواتها تجاه الكابينة التى أشارت إليها "هدى" من قبل .. بدلت ملابسها سريعاً وهى تحاول ضبط أنفعالاتها وهى تصرف عن ذهنها نظرات "حسام" التى رمقتها بغضب وهى تمر بجواره وتغلق باب الكابينة بوجهة بعنف لا مبرر له  .. فتحت الباب وخطت خطوتين للخارج وقد أرتدت ملابس البحر المكونة من قطعة واحدة سوداء اللون وقد حاصرت خصرها بشال أسود شفاف تربطة إلى أحد جنبيها جعلها تظهر بشكل أكثر فتوناً وهى تخفى عينيها وما يعتمل بهما خلف نظارة سوداء قاتمة .. وقبل أن تُكمل خطوتها الثالثة شعرت بقبضته تلتف حول معصمها وبيده تدفعها للخلف باتجاه الباب مرة أخرى فشهقت وهى تلتفت إليه ..أمتزج الحنق بخوفها منه وهى ترى عينيه وقد تطاير الشرر بركانهما يلسعها وهى تسمعه يهدر كالأمواج الثائرة :
- أدخلى حالا غيرى الزفت اللى لابساه ده
وتألمت وهى تحاول تخليص معصمها المسحوق فى قبضته هاتفة بحنق:
- سيب أيدى .. وانت مالك أنت ألبس اللى انا عايزاه
بقبضته الأخرى فتح الباب ودفعها للداخل برفق وهو يشير محذراً بسبابته :
- قسماً بالله لو ما غيرتى المايوه ده لهتشوفى "حسام" تانى خالص ولا هيهمنى حد أنتى فاهمة ولا لاء
أنهى عبارته وأغلق الباب بقوة جعلتها تنتفض .. فركت معصمها وهى تنظر إلى أثر قبضته دامعة العينين .. خلعت نظارتها وقذفتها بعنف وهى تصرخ باكية وكأنه أمامها :
- انت مش وصى عليا ..إذا كان جوزى عارف وموافق وسابنى ومشى ومهاموش حاجه ..أشمعنى يعنى انت اللى هتحمينى
كان لايزال فى الخارج لم يتحرك بعد صفعه للباب وبرغم سخطه عليها إلا أن صراخها بتلك الكلمات آلمه بشدة بل لكزه بقلبة .. إنها تموء كالقطة المحبوسة تعانى إهمال صاحبها بقلة حيلة وإنكسار .. ترك الباب وعقد يديه فوق صدره وسار بشرود باتجاه "هدى" التى تمددت منذ أن تركتها "حبيبة" وانصرفت فوق أحد المقاعد الكبيرة أسفل المظلة المفتوحة أمام البحر منهمكة بالحديث فى الهاتف تنصت تارة وتضحك أخرى .. جلسه على المقعد المقابل لها واتكأ بمرفقية على فخذيه وهو ينظر إليها بتمعن شديد أربكها وجعلها تُنهى المكالمة سريعاً وهى تقول :
- طيب يا "سمر" هكلمك كمان شويه مع السلامه دلوقتى
وضعت الهاتف وألتفتت إليها متسائلة :
- فى حاجه يا "حسام" ؟
قال دون مقدمات :
- حكتيلها تفاصيل يومك زى كل مرة ؟
قطبت جبينها وهى تمط شفتيها بضجر قائلة:
- قولتلك قبل كده انا متعودة على كده من زمان يا "حسام" .. ماما معودانا نحكى معاها كل حاجه
رفع حاجبية وهو يقول ساخراً:
- واختك "سمر" معوداكى برضه تحكيلها كل حاجة ؟
أعتدلت جالسة بضيق هاتفة:
- فى ايه يا "حسام" هى أول مرة يعنى تشوفنى بحكى مع "سمر" أنا مش فاهمة انت ايه اللى مضايقك
رفع نظارته يلملم بها خصلات شعره المبتل للأعلى وضيق بين عينيه وهو يقول بنبرة منخفضة متوعدة:
- كله إلا علاقتنا الخاصة يا "هدى" .. فاهمانى طبعاً
أشاحت بوجهها مرتبكة وهى تقول بتردد وقد فهمت ما يرمى إليه بتحذيره:
- دى كانت مرة واحدة بس اللى اتكلمت فيها فى الموضوع ده
أمسك كتفها بحدة جعلتها تنظر إليه مضطربة وقال متوعداً:
- أنا حذرتك قبل كدة يا "هدى " وادينى بحذرك تانى .. فاهمة ؟
تناولت الكتاب الموضوع بجوارها واستقلت وهى تفتحه تُخفى بين أوراقه وجهها المحتقن وهى تجيب:
- فاهمة .. لو سمحت بقى سيبنى لوحدى
نهض متأففاً عائداً إلى البحر من جديد وبعد ثوان معدودة كان يُلقى بجسده بين أمواجه ويدفعه بقوة بين طياته سابحاً بضراوة إلى عمقه لعله يُطفىء بعض نيرانه وثورته التى نشبت به بعد رؤيته لها بملابس البحر الماجنة .. كلما تذكرها ضرب المياه بيديه بعنف وقوة أكبر يجبر جسده على الإنهاك وعقله على النسيان وهو موقن أنه فى تلك اللحظة يخون صديقة الذى ترك زوجته هكذا بضاعة مزجاة  .
***

وضع سماعة الهاتف قائلاً بدهشة وهو يضرب كفاً بكف :
- والله مجنون
نظرت إليه فى المرآة وهى تجفف شعرها بالمنشفة متسائلة:
- بتتكلم عن مين ؟
هتف بحنق:
- "حسام" يا ستى قفل حسابه ومشى من الفندق وهو ومراته من غير ما يقول
خفضت ذراعيها وهى لازالت ممسكة منشفتها وهى تقول بحيرة:
- مش كان لسه فاضلهم كام يوم كمان
وضع لفافته فوق المطفئة بحرص وهى مازالت مشتعلة ونهض واقفاً وهو يقول بتفكير:
- الواد ده فيه حاجه مش طبيعية .. كل يوم يبعد عنى أكتر من اليوم اللى قابله ولما بحاول أقرب منه يهرب مش عارف ليه !
عادت بوجهها إلى المرآة مرة أخرى وأخذت تمشط شعرها بصمت وكل خلجة منها تصارع الأخرى بمزيج غريب من السعادة والحزن !
***


منذ ذلك اليوم وهو يتخذ الهرب مسلكا  وطريقا له ولقد ساعدته هي علي ذلك
فباتت تتجنب حتي الصدف !
ولم يكن الأمر عسيرا  فلقد كان خبر حملها كافيا للتذرغ بتعب الحمل المعتاد لعدم حضور المناسبات التى قد تجمعهما
 ومرت شهور عدة وقرارهما بالفرار يزداد ثباتا مع ثبات جنينها حتي مضت في شهرها التاسع تنتظر وقت الفكاك والخلاص .. إلا فى أحد الأيام اضطرت إلى الإنصياع لإلحاح "نور" التى حدثتها بعتاب كبير فى الهاتف طالبة حضورها وقد اظهرت استياءا كبيرا بسبب امتناع "حبيبة" عن زيارتها
ذهبت إليها مرغمة في زيارة سريعة وجلست بين يديها معتذرة وهي تتلعثم بحرج:
- والله يا طنط الحمل تاعبني اوي وبيخاليني مش قادرة اتحرك .. حضرتك كنتى بتشوفينى تعبانه ازاى لما بتيجى تزورينا
زفرت نور وقالت بريبة:
- الكلام ده كان ممكن في الشهور اللي فاتت لكن خلاص بقى انتى قربتى تولدى
صمتت "حبيبة" لا تعلم ماذا تقول فاستطردت "نور" قائلة بإصرار:
- أنتى هتباتى معايا لحد ما "خالد" يرجع من السفر
أبتسمت "حبيبة" ساخرة وهى تقول:
-  متقلقيش عليا أصلا "خالد" مسافر على طول وانا ببات لوحدى عادى
حسمت "نور" الجدال وهى تنهض قائلة:
- مينفعش اسيبك تباتى لوحدك وانتى على وش ولادة والكلام ده مفيهوش نقاش .. أنا  هقولهم يحضروا الغدا
تابعتها "حبيبة" ببصرها متعجبة وهى تنصرف بعد أن أنهت عبارتها الآمرة رافضة للنقاش.. لقد أتعبتها تلك الأسرة كثيراً  يلقون إليها بالأومر وهى ما عليها سوى التنفيذ ولكن هذا ليس سبب دهشتها ؛ إن ما أدهشها حقاً أن ارتسمت ابتسامة جذلة فوق ثغرها فلقد اكتشفت أنها تحب خوفهم العنيف عليها إلى حد الجنون !
وعندما حان المساء أوصلتها "نور" إلى أحد غرف النوم وهى تقول :
- معلش يا "حبيبة" هتنامى فى أوضة "حسام" لحد بكره بس .. أصل التكييف اللى فى أوضة "خالد" بايظ وانا مبعرفش أغير مكان نومى
تسمرت قبضتها فوق مقبض الباب ولم تجرؤ على فتحه وساد الصمت لثوانٍ .. فهمت "نور" سبب قلقها فقالت على الفور:
- متقلقيش "حسام" من ساعة ما اتجوز مدخلش أوضته غير مرات قليلة أوى
كادت أن تعترض ولكن لسبب ما بداخلها أومأت برأسها متفهمة وهى تفتح الباب وتلج للداخل ببطء خجل .. تركتها "نور" وذهب باتجاه غرفتها وهى تقول :
- لو احتجتى حاجه متتكسفيش البيت بيتك .. تصبحى على خير
دلفت للداخل بهدوء وأغلقت الباب خلفها دون أن توصده واستدارت لتواجه غرفته وحدها .. أصطدمت أنفها برائحته تعبق المكان بعبيرها الآخاذ .. كان ذلك كافياً ليثير بداخلها مشاعر كثيرة متداخلة بين الخجل والقلق والفضول ..استلقت فوق فراشة بحركة خفيفة وكأنها تخشى أن توقظه ! .. توسدة خيالها وتلحفت بذهنها الذى أصبح فى نقاء صباح ساطع لا يشوبه غيوم ولا يعكره ضباب  رسم عقلها صورة مجسمة له..
 يقطع الغرفة ذهاباً وإياباً.. يتحرك بين جنبات الحجرة الواسعة .. يتكلم .. يضحك ..
يشاكس من حوله بابتسامته الجذابة .. ووجدت شفتاها تهمس باسمه دون وعي .
***
أنتفض معتدلاً فى جلسته فى حركة فُجائية بلا مبرر بعد أن كان مسترخى وهو يشاهد التلفاز فى غرفة المعيشة مما جعل "هدى" تعقد حاجبيها وتقول متسائلة:
- مالك يا "حسام" ؟
ألتفت إليها بعينين شاردتين دون أن يجيب فقالت مردفة:
-  مالك أتنفضت فجأة كده ليه ؟ ! .. خضتنى
نهض واقفاً وهو يلتقط سلسلة مفاتيحه من فوق الطاولة ويسرع باتجاه الباب وهو يقول :
- انا رايح عند ماما
نهضت وسارت خلفه وهى تقول مندهشة :
- فجأة كده ؟!
على عجلة من أمره أدار مقبض الباب وهو يقول :
- معلش يا "هدى " مش هتأخر
أنطلق بالسيارة مسرعاً وهو يكاد يُقسم بداخله أنه استمع إلى اسمه من بين شفتيها تناديه .. وكأنها توقظه من غفلته وتدعوه للنظر نحوها ولكنه لا يعلم لماذا يتجه إلى منزل والدته فى تلك الساعة على وجه التحديد .. هناك شىء ما يشده ويجذبه .. هناك من ينتظره ..وبشغف !